التدبر في القرآن الكريم هو رحلة تأملية عميقة، نستلهم منها الدروس والعبر، ونغوص في أسرار اللغة ودقة التعبير الإلهي. ومن بين أساليب التدبر الفعالة، التركيز على الكلمات المتكررة التي ترسّخ مفاهيم أساسية، ثم التوقف عند الكلمات التي وردت مرة واحدة أو نادرًا، والتي تفتح أمامنا أبوابًا جديدة من الفهم والتأمل.
لقد مرّ معنا أن أكثر الكلمات تكرارًا في القرآن الكريم هي لفظ الجلالة "الله"، مما يعكس مركزية التوحيد. كما أن من أكثر الألفاظ تكرارًا أسلوب الحوار مثل "قال، قالوا، قل"، وقد تساءلنا حول ذلك. كذلك، تكرار "الرحمن – الرحيم" الذي قد نتدبره لاحقًا، يؤكد محورية الرحمة في العلاقة بين الله وعباده. أما تكرار مفاهيم مثل "اليوم – الساعة – الحساب" فيرسّخ أهمية التذكير بالآخرة والجزاء، في حين أن تكرار "الناس – المؤمنون – الكافرون – المنافقون" يمثل تصنيفًا للبشر وفق مواقفهم من الإيمان.
لكن ماذا عن الكلمات النادرة؟
هل ورودها لمرة واحدة في القرآن أمر عابر؟ أم أنها تحمل دلالة خاصة تستحق التدبر والتأمل؟
تشير الدراسات إلى أن هناك أكثر من 1600 كلمة وردت في القرآن الكريم مرة واحدة فقط، وهذا يلفت انتباهنا إلى تفردها في سياقات معينة، واختيارها بدقة إلهية لا تعرف العشوائية.
ومن بين هذه الكلمات الفريدة كلمة "لُغُوبٌ"، التي لم تُذكر في القرآن إلا في موضع واحد، في قوله تعالى:
"وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ" (ق: 38).
التدبر في معنى "لُغُوب"
"لُغُوب" تعني التعب والإعياء الشديد، وجاءت في هذا السياق ردًّا على زعم اليهود بأن الله – تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا – خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السبت. فجاءت هذه الآية تنفي أي نقص عن الله، وتؤكد كمال قدرته المطلقة. فالله لا يمسه تعب ولا يلحقه نصب، فهو القوي المتين، الذي "لا تأخذه سنة ولا نوم".
لماذا اختار الله كلمة "لُغُوب" تحديدًا؟
اللغة العربية غنية بالمترادفات التي تعبّر عن التعب، لكن "لُغُوب" تدل على التعب الشديد المصحوب بالمشقة والعناء، وليس مجرد الإرهاق العادي. وكأن الله – سبحانه – ينفي عن ذاته أي نوع من الضعف أو الحاجة إلى الراحة، ردًّا قاطعًا على تلك الافتراءات الباطلة.
الدروس والعبر المستفادة من الآية:
1. تنزيه الله عن أي نقص
الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى راحة أو استراحة، لأنه "ليس كمثله شيء". فالبشر قد يُنهكهم العمل، لكن الله القادر المطلق لا يناله تعب.
2. تصحيح العقائد المنحرفة
القرآن لا يترك مجالًا للتحريف أو الشبهات، بل يضع النقاط على الحروف، ويؤكد الحقائق الإلهية كما هي. فمن زعم أن الله تعب ثم استراح، فقد أخطأ في فهم معنى الألوهية.
3. قدرة الله المطلقة
خلق السماوات والأرض ليس شيئًا بسيطًا، لكنه لم يكن على الله صعبًا، فلو أراد شيئًا قال له "كُنْ فَيَكُونُ". إذا كان الله لا يعجزه خلق الكون، فكيف يعجزه تحقيق أمانيك؟
4. التأمل في ضعف الإنسان
البشر يحتاجون إلى الراحة بعد ساعات من العمل، أما الله فهو الذي يدبر الأمر بلا عناء. هذا يذكّرنا بمدى ضعفنا أمام عظمة الله، ويدفعنا إلى التواضع والخشوع.
خاطرة رمضانية
كما أن الله لم يصبه "لُغُوبٌ" في خلق الكون، فإنه لا يصيبه تعب في مغفرة الذنوب لعباده!
رمضان فرصة لنستوعب معنى هذه الآية: الله واسع المغفرة، قادر على تغيير حالك في لحظة، فلا تيأس من التوبة.
إذا كان الله لا يعجزه خلق السماوات والأرض، فكيف يعجزه استجابة دعائك؟ ألحّ في الدعاء، فهو القادر على كل شيء!
ومضة إيمانية
التدبر في هذه الآية يجعلنا نلجأ إلى الله في كل أحوالنا، فنحن الضعفاء، وهو القوي، نحن المحتاجون، وهو الغني. فهل فوضنا أمرنا إليه حقًّا؟
-->