في صباح شاحب، بين زحام المدينة المتعبة، كان عادل يركض على قارعة الطريق، يطارد آخر باص في الفرزة. خطواته المتلهفة سبقت تفكيره، حتى أنه لم يشعر بانقطاع حذائه إلا عندما أعاقه عن الاستمرار. توقف للحظة، يلتقط أنفاسه المتقطعة، يسبّ واقعه المكتظ بالفشل واليأس بصوت مكتوم، قبل أن يعاود الركض مجددًا، وكأنما يحاول اللحاق بما تبقى من أمل ضائع.
حين صعد إلى الباص، لم يكن المكان مزدحمًا سوى بالهموم. ستة ركاب تقاسمت أجسادهم المقاعد الضيقة، لكن أرواحهم كانت مثقلة بما لا يحتمل. وقعت عيناه على محمود، رجل في منتصف العمر، يجلس بصمت، لكن وجهه كان يصرخ بحكايات تعبٍ لا تنتهي. قميصه الباهت وبنطاله البسيط لم يكونا مجرد ملابس، بل شهادة حية على واقع تتآكله الأزمات.
عادل، وهو يزفر أنفاسه الغاضبة، همس بصوت بالكاد يسمعه من حوله:
“والله يا محمود، كل يوم أحس إن الدنيا تضيق علينا أكثر. شفت البيان الأخير للمبعوث الدولي؟ نفس الوعود، نفس العبارات المنمقة، وكأننا نعيش في عالم موازٍ، بعيد عن هذه الشوارع المتعبة.”
محمود، بكلمات ثقيلة يطاردها الألم، أومأ برأسه قبل أن يقول بصوت بالكاد يُسمع وسط الضجيج الخارجي:
“أيوه، عادل. قرأت البيان… لكنه لا يغير شيئًا. العملة تنهار، الأسعار تبتلع ما تبقى من حياة الناس، والأمل بات ترفًا لا نجرؤ على التفكير فيه.”
تبادل الرجلان نظرات طويلة، لم تكن مجرد نظرات عابرة، بل لغة صامتة من الحزن والخذلان. كأن وجهيهما كانا صحيفةً تُسجِّل بأحرف من تعبٍ تاريخًا مليئًا بالخذلان والانتظار العقيم.
عادل، وهو يتكئ على النافذة كمن يبحث عن مخرج من هذا الضيق:
“حتى بيانات الدول العربية، بيانات وتصريحات واجتماعات… لكنها لا تمس الأرض. الناس تحتاج رواتب تعيد الطمأنينة لبيوتها، وطنًا لا يكون فيه الخوف خبزًا يوميًا، وطنًا لا نكون فيه مجرد أرقام في نشرات الأخبار.”
محمود، بصوت مبحوح، كمن يحاول أن يمنع دموعًا لا تليق بكبرياء رجل أنهكته الحياة:
“الشعب لم يعد يطلب أكثر من حقوقه البسيطة. لسنا بحاجة إلى بيانات تُنشر في الصحف، بل إلى واقع ملموس… إلى شيء يمنحنا الأمان والكرامة، إلى وطنٍ لا يكون فيه انتظار الغد أشبه بحكم إعدام مؤجل.”
ساد الصمت للحظة، لكنه لم يكن صمت ارتياح، بل صمت ثقيل يعجّ بكل الكلمات التي لم تُقل. في تلك المساحة الضيقة من باص النقل العام، اجتمع صوتا رجلين، لكنهما لم يكونا وحدهما، بل كانا لسان حال الملايين ممن أرهقتهم الأزمات.
لم يكن حديثهما مجرد تذمر عابر، بل صرخة مكتومة، تضاف إلى آلاف الصرخات التي تملأ الشوارع والمنازل والأسواق. تلك الصرخات التي لا تصل إلى قاعات الاجتماعات ولا تتسرب إلى بيانات المسؤولين. لكنها، رغم كل شيء، تظل شاهدة على شعب يتألم بصمت، لكنه لم يفقد بعد حقه في الحلم بوطن لا تسرقه البيانات الجوفاء، ولا يختزله خطاب سياسي باهت، بل وطن يستحق أن يُعاش فيه بكرامة.
-->