لماذا لم تسقط الإمامة نهائياً في اليمن؟.. قراءة في تحالف السلالة والقبيلة

عبدالباري علاو
الاربعاء ، ١٩ مارس ٢٠٢٥ الساعة ٠٣:٤٥ صباحاً

 

لطالما كان التاريخ السياسي للإمامة في اليمن مثالًا حيًا على الصراع اللامحدود على السلطة، حيث لم يكن الاستقرار يومًا جزءًا من معادلة الحكم الإمامي. فمنذ دخول الفكر الإمامي إلى اليمن، لم تكن الدولة الإمامية دولةً مركزية بقدر ما كانت سلسلة من الصراعات المستمرة بين أئمة متنازعين، يحكم كل منهم لفترة، ثم يُطاح به ليبدأ آخر دورة جديدة من الدماء والمؤامرات.

 

 

الإمامة كنظرية ولّادة للصراع:

 

على عكس النظم الملكية الوراثية التي تحكمها سلالات محددة وفق تسلسل زمني واضح، قامت النظرية الإمامية الزيدية على مبدأ "الخروج"، أي أن كل من توفرت فيه الشروط التي وضعها الفقه الزيدي يمكنه إعلان نفسه إمامًا، والدعوة إلى بيعته، والخروج على من سبقه أو منازعته الحكم. لم تضع هذه النظرية حدًا زمنيًا أو مكانيًا لظهور الأئمة، ولم تشترط حصر الإمامة في شخص واحد في آنٍ واحد، مما جعل التنازع على السلطة هو القاعدة، لا الاستثناء.

 

هذا المفهوم لم يكن مجرد فكرة دينية، بل كان أداة لصناعة الفوضى وإعادة إنتاج النزاعات بشكل دائم، إذ لم تفرض النظرية الإمامية سلطةً موحدةً، بل على العكس، سمحت بخروج أكثر من إمام في أماكن مختلفة، مما جعل المشهد السياسي في اليمن عبارة عن سلسلة من الحروب الداخلية، حيث لا يُكتب لإمام الاستقرار، إلا ليخرج عليه آخر ينازعه السلطة.

 

 

التخادم بين الأئمة والقبائل: تحالف الضرورة لا العقيدة:

 

رغم أن الأئمة جاءوا من خارج النسيج القبلي اليمني، إلا أنهم استطاعوا استخدام التركيب الاجتماعي القبلي لصالحهم. فمنذ دخولهم اليمن، كانت القبائل هي القوة العسكرية الأساسية التي تقوم عليها سلطة الإمام، لكن العلاقة بين الطرفين لم تكن علاقة ولاء دائم، بل كانت علاقة مصلحية قائمة على تبادل المصالح.

 

أتاحت النظرية الإمامية نفسها إمكانية استغلال هذا الوضع القبلي، إذ كان كل طامح في الإمامة بحاجة إلى قوة عسكرية تقاتل باسمه، وهنا لعبت القبائل الدور الحاسم. كان من السهل على كل طامع بالإمامة أن يتصل بأطراف من القبائل المتصارعة، ويعلن خروجه، لتتلقفه هذه القبائل وتقاتل خصومها تحت رايته. وبالمثل، كانت القبائل التي تناصب الإمام الحاكم العداء تبحث عن أحد الطامعين بالإمامة وتنصبه إمامًا، ليكون واجهة لها في صراعها مع الإمام الحالي والقبائل التي تقاتل معه.

 

هذا التخادم المصلحي بين الأئمة والقبائل أدى إلى استمرار دوامة العنف، إذ لم يكن هناك إمام يحكم بلا حرب، ولم تكن هناك قبيلة تتحرك بلا مكاسب، فكانت السلطة تتغير وفقًا لموازين القوى القبلية أكثر مما كانت تتغير وفقًا لمعايير الحكم أو الكفاءة.

 

 

ثقافة الفود والاحتراب: من النزاعات القبلية إلى الحروب الدينية:

 

استغل الأئمة طبيعة الحروب القبلية في اليمن وحولوها إلى صراعات ذات طابع ديني. فمن خلال غطاء "الخروج" على الإمام الجائر، تمكن كل إمام جديد من تجنيد القبائل المتناحرة تحت رايته، فكان يفتح باب الجهاد ضد خصومه، ويمنح أتباعه شرعية دينية لسفك الدماء تحت دعوى "نصرة الحق". وهكذا، تحولت الغارات القبلية التقليدية إلى معارك عقائدية، ما أضفى على القتال بعدًا مقدسًا جعل من الصعب إنهاء النزاع بمجرد هزيمة إمامٍ وصعود آخر.

 

 

البيئة الاجتماعية: الجهل والفقر كأدوات للسيطرة:

 

كان بقاء الإمامة مرهونًا باستمرار الفقر والجهل، فكلما كانت المجتمعات أكثر تخلفًا، سهل استغلالها باسم الدين. لم تهتم الإمامة عبر تاريخها بتنمية البلاد، بل اعتمدت على إبقاء اليمن في حالة ضعف دائم، لأن أي نهضة فكرية أو اقتصادية كانت ستهدد نفوذها. فحتى بعد مرور قرون على حكم الأئمة، ظلت اليمن واحدة من أكثر البلدان فقرًا، بلا مؤسسات حقيقية أو تعليم حديث، لأن كل ذلك كان يُنظر إليه على أنه تهديد لسلطة الإمام.

 

 

الإمامة بين الماضي والحاضر: هل يعيد التاريخ نفسه؟

 

رغم سقوط الإمامة سياسيًا مع قيام الثورة اليمنية عام 1962، إلا أن الفكر الإمامي لم ينتهِ، بل ظل كامنًا في بعض الأوساط، إلى أن عاد مجددًا في صورة الحوثيين، الذين ورثوا نفس أدوات الحكم الإمامي: الصراع الدموي، استخدام القبائل، توظيف الدين، والإبقاء على المجتمع في حالة جهل وفقر.

 

وكما كانت الإمامة عبر التاريخ، لم يكن الحوثيون استثناءً، فهم أيضًا غارقون في الصراعات الداخلية، وكل قياداتهم ترى نفسها الأحق بالسلطة، وكلما توفرت الظروف، ظهر إمامٌ جديد ينازع من قبله، في إعادة إنتاج لنفس الدوامة التاريخية التي عاشها اليمن منذ قرون.

 

 

التخادم القبلي الإمامي: دوامة لا تنتهي... فهل ينجو اليمن؟

 

لم تكن الإمامة في اليمن مجرد نظام حكم، بل كانت منظومة قائمة على تحالف متبادل بين الطامحين للسلطة والقبائل الباحثة عن مكاسبها الخاصة. فقد كان الأئمة يستغلون التنافس القبلي لإشعال الصراعات وتمكين أنفسهم، بينما كانت القبائل توظّف الطامحين للإمامة كأدوات لخوض معاركها ضد خصومها. هذا التخادم المستمر هو ما جعل الفكر الإمامي قادرًا على البقاء، حتى بعد سقوط دولته سياسيًا، حيث ظل يبحث عن موطئ قدم جديد عبر نفس الأدوات والأساليب القديمة. واليوم، مع إعادة إحياء هذا الفكر في أشكال جديدة، يبقى السؤال الأهم: هل ينجح اليمن أخيرًا في كسر هذه الحلقة المغلقة، أم أن التخادم بين السلطة الدينية والنفوذ القبلي سيبقى يعيد إنتاج نفسه، في دوامة لا تنتهي؟

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي