الشرعية ومكوناتها بين خيار الماضي وخيار الحاضر

د. عبده مغلس
الجمعة ، ٢٢ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٤:٣٧ صباحاً

التطور سنت الوجود وإيقافه كفر.

خلق الله الوجود وسخره للإنسان لممارسة الاستخلاف عبر سُنّتَ التطور، فالتطور هو طريق الاستخلاف ومسيرته، حتى اكتمال مرحلة الاستخلاف، المنتهية بأخذ الأرض زخرفها وزينتها، المنتهية بأمر الله، ولذا فإن إيقاف التطور، سواء بالتوقف عند زمن معين، أو التوقف في مسيرة الحياة، عند لحظة زمنية بعينها، أو إيقاف مسيرة التطور الزمني، عن سيرها ومسارها، نحو الحاضر والمستقبل، هو كفر بالله، وبأمره وبحكمته ومراده، وأوضح الله سبحانه ذلك في قصة حوار صاحب الجنة مع صاحبه، حينما اعتقد أن جنته لن تبيد أبداً، فأوقف سُنّتَ الحياة وتطورها، فقال له صاحبه أكفرت، وقد وصف الله ذلك بقوله:

{ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا * قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا } [الكهف : 35-37]

الإمامة مكمن الداء.

نحن المسلمون المؤمنون بالرسالة الخاتم التي ختم بها الله رسالات دينه وأتمه وأكمله بها، والتي بلّغها رسوله الخاتم محمد (ص)، اجتبانا الله وسمانا في دينه الإسلام بإسم "المسلمين المؤمنين" وقبلاً وختماً بملة أبينا إبراهيم "الحنيفية" لنكون شهداء على الناس، والرسول علينا شهيداً، مهمتنا إقامة دينه، والدعوة له، والاعتصام بالله وحده، والسير بسبيله وصراطه المستقيم وترك كل السبل المخالفة يقول سبحانه:

{وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} [الحج : 78]

{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام : 153]

هذا صراط الله وسبيله لنتبعه، وهذه هي تسمية الله لنا "المسلمين" ، لكننا اليوم نسمي أنفسنا بتسميات بديلة لتسمية الله لنا "المسلمين" تسميات تتبع مذاهب وضعها الناس، وأصبحت تقرن بتسمية الله لنا "المسلمين" فتعددت التسميات وفقاً للمذاهب والفرق وأئمتها وشيوخها، وبهذه التسميات تعددت تسميات المسلمين، وتحولت الأمة من تسمية إسلام رب الناس، إلى تسمية الناس، واصبح المسلمون يعتصمون بأئمة وشيوخ المذاهب والفرق ورأيهم، بدلاً من اعتصامهم بالله ودينه، وبهذا الانحراف أصبحت الإمامة أصل من أصول الدين، فلا دين للمسلمين، دون الإمامة والإمام المعصوم، وأصبح المسلم يعتقد أن إيمانه ودينه لا أصل له دون الإمام وقرين القرآن، والله يؤكد في محكم تنزيله أنه سبحانه قام بجمع وحيه، ورتّله وبيّنه وأبانه، وفصّل آيات كتابه تفصيلاً كاملاً، وبيّنها تبياناً تاماً، وقرآنه لا يحتاج لإمام ليكون قرينه، ولا لإمامة تُبَيّنه، وهذه المعتقدات نتجت عن تجهيل الأمة وجهل الأتباع، الذين أضاعوا طريق الهُدى بهجرهم القرآن وحولوا الرأي الفقهي في الإمامة لدين بديلاً عن دين الله الإسلام.

الحقيقة المغفول عنها.

والمتابع لأئمة المذاهب جميعهم رحمهم الله، يجد أنهم اجتهدوا، لمعالجة مشاكلهم، من خلال قراءة دين الله بكتاب وحيه، ومعتمدين على أول قراءة وتلاوة لكتاب الله مارسها رسول الله محمد، بأسوته الحسنة، وبصحيح سنته، وبهذه الأسوة الحسنة للنبي عليه الصلاة والسلام، قرأوا كتاب دين الله، قراءة توافق عصرهم ومعرفتهم، وأدواتهم المعرفية، واستنبطوا منها، معالجات لإشكالات زمانهم وواقعهم، وكانت اجتهاداتهم ومعالجتهم، لمشاكلهم هي بمثابة رأي منهم، وليست ديناً بديل لدين الله، المحفوظ في كتاب وحيه، ولم يقل أحداً منهم أبداً، أن رأيه واجتهاده، هو دين بديل لدين الله الإسلام.

داء الماضي وآبائيته وعلاجه.

الآبائية تعني التمسك بأقوال الأباء، وعيش حياتهم بزمانهم، والتمسك بأعمالهم وأفعالهم وأقوالهم، والأبائية من أشد الأمراض فتكاً بالإنسان، والمجتمعات، والشعوب والدول، كونها تلغي الحياة وتمنع رحلة الاستخلاف والتطور، وقد ذمها الله وحذر منها، في العديد من آيات كتابه يقول سبحانه:

{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} [البقرة : 170]

{وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} [المائدة : 104].

والمراقب للمشهد اليمني يجد أن مكونات الشرعية في تعاملاتها وعلاقاتها مع بعضها تعيش الماضي وآبائيته.

ولخطورة داء التمسك بالماضي فقد حدد الله علاجه بشكل فعال، بمعالجة علاقتنا بالماضي وارتباطنا به، وبهذا المنهج القرآني للمعالجة، نستطيع اليوم معالجة علاقتنا بالماضي، على المستوى المذهبي والسياسي، لنعالج ماضينا المعاصر بصراعاته، وحروبه، وإشكالاته، وفقاً لقوله سبحانه:

{تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} [البقرة : 134]

وهنا قول الله واضح، فأعمال من سبقونا مرتبطة بهم وبزمانهم، وما كسبوه واكتسبوه هو لهم لا لنا، ولا علاقة لنا مطلقاً بذلك، ولن نُسأل عن ما فعلوه وكسبوه، فلنا أعمالنا ولهم أعمالهم، وتلك قراءتهم لزمانهم وواقعهم، وفق معارفهم، قدموا بها أرائهم لمعالجة مشاكلهم، ونحن لنا قراءتنا وفق زماننا ومعارفنا ومشاكلنا، ومن قراءتنا نحن نستنبط رأينا لمعالجة مشاكل عصرنا، وأعمالهم وأفعالهم بالنسبة لنا قصص للعبرة والاعتبار، حتى لا نقع في نفس الأخطاء،

الجهل وهجر القرآن وأثره.

لكن الجهل وهجر القرآن، قادا الأمة لتصبح أمة المذاهب والرأي، والخلاف والصراع المذهبي والسياسي، ولم تعد أمة دين الإسلام الواحد، فتفرق دين الله لأديان المذاهب والفرق، ولم نعد نحيا عصرنا وأزماتنا ومشاكلنا، بل نحيا عصر المذاهب وصراعاتها، الفقهية والسياسية، فنحن أحياء أموات، نعيش بأجسادنا في الحاضر وبعقولنا في الماضي.

واقعنا وعصرنا في اليمن وتأثير الماضي عليه.

وها نحن في اليمن مذهبياً نعيش عصر وحروب الجمل وصفين وكربلاء، والتشيع والتسنن، وأراء الفقهاء، وسياسياً تعيش مكونات الشرعية، ماضي صراع الأحزاب والمكونات، من صراع ناصر والإخوان، وصراع الأجنحة، والحزب الطليعي، وصراعات الهيمنة والمواجهة، وصراعات حرب ٩٤، وصراعات ثورة الشباب في ٢٠١١ وما بعدها، هذا الماضي وصراعاته المهيمن على مكونات الشرعية الحزبية والمجتمعية، منع الشرعية من بناء مؤسسات الدولة في المناطق المحررة، ومنعها من استعادة الدولة وهزيمة المليشيا الحوثية الارهابية، وفي الجانب الأخر نجد مليشيا الحوثي الارهابية تعيش تثبيت ماضيها الإمامي، وتدمير الجمهورية، وتقضي على الثورة، وتقتلنا بسيف الإمامة، وبسيف تمزق مكونات الشرعية وعيشها الماضي وصراعاته، وهذه هي نتائج خيار الماضي وصراعاته.

خيار المستقبل.

ولإنقاذ بلادنا وشعبنا ومستقبلنا وأجيالنا، لا خيار لنا، غير أن نعيش حاضرنا ومشكلاته، دون تأثير الماضي وويلاته وصراعاته، وهنا أدعو وأنصح كل مكونات الشرعية وأحزابها، للخروج من الماضي وصراعه وأرائه، فلم نجني منه غير التمزق والفشل، وتمكين الإرهاب الحوثي، من تدمير اليمن الدولة والشعب والجمهورية والثورة، واستمرار تشردنا وبعدنا عن وطننا.

العودة للحق

كتاب الله هو الحق، فلنعد لكتاب دين الله وتسميته لنا بالمسلمين، وبالأمة الواحدة، والأخوة الواحدة، ولنعد للاعتصام بحبل الله، وعدم الفرقة والتفرق، فهذا أمر الله، وأمر دينه لنا، وكتاب الله طوق النجاة لنا، فهو الوحيد دون غيره، القادر على تأليف القلوب، فلا قول غيره يمكنه ذلك، حتى قول الرسول عليه الصلاة والسلام لا يستطيع تأليف القلوب، كما ذكر الله بقوله سبحانه:

{وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} [الأنفال : 63]

لذا فالواجب الديني والوطني، ينادي الشرعية بجميع مكوناتها، للخروج من الماضي، وللتآلف، ودمج مشاريعها المختلفة بمشروع واحد، هو مشروع "الدولة والجمهورية".

تآلفوا مع بعظكم، وانظروا إلى البلدان التي تعيشون فيها هرباً من بطش الإرهاب الإمامي الحوثي، وكيف يعيشون ويتعايشون متآلفين، قلوبهم مؤلفة وملتفة، حول قياداتهم ودولهم، ويعملون لبناء حاضرهم ومستقبلهم، فلكم بحياتهم ودولهم عبرة، ولكم بحياتنا ومعاناتنا عظة وعبرة .

تمسكوا بتسميتكم الدينية "المسلمون" تمسكوا بتسميتكم الوطنية "اليمنيون" تمسكوا بتسميتكم الجمهورية "الجمهوريون".

كونوا جميعاً، رأياً واحداً، وصفاً متماسكاً، خلف مجلس القيادة الرئاسي وقيادته، والذي مثل نموذجاً للألفة والتآلف المنشود بين مكونات الشرعية.

وثقوا أن اليمن يتسع للجميع، وخيراته وثرواته في البر والبحر والسماء، وبحاره التي تزيد مساحتها عن ٥٠٠ الف كيلومتر مربع، وموانيه العديدة، ستجعل الجميع اغنياء.

غادروا خيار الماضي وحروبه وويلاته، وتوجهوا نحو خيار الحاضر والمستقبل بألفته وتآلفه.

فهذا خيار الشرعية ومكوناتها الوحيد، لاستعادة دولة ووطن الجمهورية، وهزيمة إرهاب الإمامة، والتعايش بسلام واستقرار فهل أنتم فاعلون.

جمعتكم خيار الخروج من الماضي والتعايش والنصر.

د عبده سعيد المغلس

٢١-٣-٢٠٢٤

 

 

 

 

 

 

 

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي