الهيمنة العصبية والحزبية ودورهما في الحروب اليمنية

د. عبده مغلس
السبت ، ١١ مايو ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٤٢ صباحاً

 

مقدمة

سلوك الإنسان يعكس ثقافته المكتسبة والمُكَوِّنَة لوعيه وعقله، فهي التي تحكم سلوكه مع ذاته ومع الأخر، فمن تربى على ثقافة التسامح يمارس سلوك التسامح منهجاً لحياته، ومن تربى على ثقافة الكراهية وعدم قبول الأخر يمارس سلوك الكراهية وعدم قبول الأخر منهجاً لحياته، ومن تربى على ثقافة العدوان يمارس سلوك العدوان منهجاً لحياته، ومن تربى على ثقافة التعايش والتعارف، يمارس سلوك التعايش وقبول الأخر منهجاً لحياته.

المشهد اليمني.

اليمن طوال العقدين الماضين يخوض حرباً دموية داخلية، تحولت لحرب مركبة، محلية وإقليمية ودولية، والمتابع للحروب اليمنية، عبر تاريخ اليمن القديم والمعاصر، يجدها لا تخرج عن داء ثقافة وسلوك وهيمنة العصبيات والتحزب.

فطوال تاريخ اليمن القديم منذ نهاية القرن الثالث الهجري، وظهور المذهب الهادوي وحتى اليوم، نجد مسببات الحروب بين اليمنيين، تمثلت بثقافة وسلوك التحزب والعصبية، إما للعنصرية الهاشمية بمشروعها السياسي "الإمامة"، وإما للعصبية المذهبية والقبلية والحزبية.

هذه الحروب أخرجت اليمن في الماضي والحاضر، من دوره التاريخي والحضاري، وتحول اليمنيون من صناع ورواد للحضارة، إلى قتلة يقتلون بعضهم بسبب هذه العصبيات، ومن يقارن الواقع اليمني بجواره، يجد شواهد لنتائج هذه الحروب، تنسج مأساة اليمن الوطن والدولة والشعب.

وإذا تتبعنا الحروب اليمنية بعد ثورتي ٢٦ سبتمبر و١٤ أكتوبر ، نجد أنها لا تخرج عن حروب هيمنة ثقافة وسلوك الحزبية والعصبية، والتي نشأت في الشمال بين القوميين وبعضهم، من ناحية وبينهم وبين الإمامة والقبلية من ناحية أخرى، كما نشأت في الجنوب بين الرفاق وبعضهم، ودخلت عوامل ودوافع جديدة بجانب حروب الهيمنة الإمامية، هي ثقافة وسلوك التمذهب، والمناطقية، والقبلية، والحزبية، وما حروب أغسطس ١٩٦٧ شمالاً، ويناير ١٩٨٦ جنوباً، وحرب ١٩٩٤ بين الشمال والجنوب، وحرب انقلاب الإمامة على الجمهورية عام ٢٠١٤ سوى نماذج ودليل وبرهان.

الجذور الأولى لهيمنة العصبية.

١- المنهج الإبليسي والنفس الأمارة بالسوء.

إن عصبية الهيمنة، تقوم على الداء القاتل للإنسان وإنسانيته، وهو داء عصبية الغاء الأخر والتي بدأها إبليس بمنهجه العنصري، الذي أسس لعصبية العنصرية، وبأن النار خير من الطين، بهدف الغاء مكانة آدم واصطفائه، وأصبح منهجاً يوسوس به للإنسان، ليخرجه من رحمة ربه كما خرج، ولحقه ابن آدم الذي سولت له نفسه الأمارة بالسوء، قتل أخيه ليلغي دوره ومكانته.

ولذا فإن ثقافة وسلوك عصبية الهيمنة، امتداد لسلوك ومنهج الشيطان، ومنهج غواية النفس الأمارة بالسوء، منهجان يستهدفان الإنسان ودوره الإستخلافي، بإلغاء جوهر خلقه وجعله خليفة، والمَتَمَثّل بنفخة الروح والإستخلاف وتعليم الأسماء، والتعارف، والشهادة على الناس، واستعمار الأرض، فالعصبية تعيد الإنسان لبشريته ولغريزة التوحش، حيث تطلق في داخله الوحش البشري، الذي لا يعرف غير الإفساد وسفك الدماء، كما وصفته الملائكة.

هذا التوحش واللا إنسانية، في سبيل الهيمنة، يفسر مسيرة وحشية القتل والإفساد وسفك الدماء، في مسيرة الإنسان، فإبن آدم قتل أخاه، والأئمة قتلوا بعضهم، والمتنافسون على الهيمنة يقتلون بعضهم، فالأب يقتل ابنه، والابن يقتل أباه، والأخ يقتل أخاه، وابن العم يقتل إبن عمه، ويتكرر هذا في كل قبيلة، وحزب، وجماعة، ودولة، يبرز فيها صراع الهيمنة والعصبية.

٢- منهج تغييب دين الله وهديه.

رافق هدي الله ونوره، الإنسان في رحلة تطوره، موجهاً ومحذراً ومرشداً لمواجهة منهج إبليس والنفس الأمارة بالسوء، فأرسل الله النذر والانبياء والرسل، يحملون للإنسانية دين الله "الإسلام"، وهديه ونوره، ليعيش الإنسان حياته بأخوة إيمانية، وأخوة إنسانية دون ضنك، ليمارس دوره في الاستخلاف والتكريم واستعمار الأرض، والتعارف.

وتنشأ حروب الهيمنة والعصبية عندما يغيب الدين الحق، وهديه من حياة الناس، وعندما تغييب المشاريع العظمى المرتبطة بالدين ودوره من حياتهم، بل وقد يُستخدم الدين ومشروعاته عنواناً لهذه الحروب، ونجد لذلك نموذجان.

الأول: بروز العصبية القرشية والهاشمية.

وهذا ما حدث في حروب عصبية الهيمنة بين العصبية القرشية، والعصبية الهاشمية، بفرعيها الطالبي والعباسي، في العصر الأول للإسلام، والمتمثل في حروب الجمل وصفين وكربلاء، والحروب العباسية الطالبية، ضد الأمويين، والحروب العباسية ضد الطالبيين، بسبب غياب الدين الحق، وبروز عصبية العنصرية القرشية والهاشمية.

الثاني: بروز عصبيات التمذهب.

وبعد هذه الحقبة دخلت لحروب العصبيات، عصبية جديدة هي عصبية التمذهب، فنشأت وما زالت حروب التشيع والتسنن، ونشأت داخل تمذهب الشيعة حروب بين فرق الشيعة المختلفة، وداخل تمذهب السنة حروب بين فرق السنة المختلفة، وغاب الدين وبرزت عصبيات التمذهب.

الجذور الثانية لهيمنة العصبية.

والتي تكونت من الحزبية، إذ نشأت عصبية الهيمنة الحزبية بمفهومها الحزبي المعاصر بظهور الأحزاب، التي رافقت حقبة الاستعمار وهيمنة رأسمالية التوحش، وظهرت الحزبية كعصبية جديدة ومكون من مكونات الليبرالية في توجيه الصراع والهيمنة على الناس، وتكرست ظاهرة الحزبية والتحزب في مجتمعاتنا العربية، خارج التطور الطبيعي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الذي رافقها في بلد المنشأ، فتشكلت ضمن الثقافة المُكَوّنة للعقل العربي، والغالب عليها العصبية القبلية والمذهبية، فأصبحت العصبية الحزبية خليط لعصبيات من عصبيات التمذهب والتحزب والقبلية، وبجانب إفرازها لثقافة وسلوك العصبية الحزبية، أنتجت ثقافة لعصبية جديدة هي ثقافة وسلوك عصبية المناطقية.

مسار حروب العصبيات في اليمن.

حروب هيمنة العصبيات، كانت السبب الأساسي في جميع الحروب بين اليمنيين في تاريخهم القديم والمعاصر، وهي حروب يغلب فيها طابع التوحش الإنساني.

فحروب العصبيات دوما تستخدم وترفع الإسلام المذهبي، والإنتماء العنصري، والإنتماء القبلي والإنتماء الحزبي، والإنتماء المناطقي، شعارات ووقود لحروبها، فشعار الإسلام مارسته الإمامة، وتمارسه المليشيا الحوثية الارهابية وداعمتها إيران، وهو أسلوب قديم جديد بدأ برفع المصاحف في معركة صفين، وهذا المنهج المخادع باستخدام شعار الإسلام، يهدف لتغييب المشروع العظيم لدين الإسلام، الذي فيه خلاص الإنسانية من هيمنة العصبيات بكل عناوينها (العنصرية والمذهبية والقبلية والمناطقية والحزبية)، هذا الدين في كتاب وحيه، خلاص الإنسان في اليمن والعالمين، فدين الله الحق يؤسس بناء المجتمعات والدول، على الأخوة الإيمانية (إنما المؤمنون إخوة)، وعلى الأخوة الإنسانية (خلقكم من نفس واحدة)، وقد الغى كل مسميات الهيمنة والعصبية لقبائل مكة، وسماهم تسمية الإسلام "المهاجرون" والغى كل مسميات الهيمنة والعصبية لقبائل يثرب، وسماهم تسمية الإسلام "الأنصار"، وبنى خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والتسليم، بصفة النبوة، والتي تعني بلغة اليوم السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، نموذج لدولة مدنية الإنسان في دولة المدينة، وحول اسمها من يثرب إلى المدينة، وكانت بميثاقها أول دولة مدنية للإنسان في التاريخ، دولة تقوم على المواطنة الواحدة والمتساوية، بغض النظر عن اللون والجنس والدين لمواطنيها، فأفضلية التكريم فيها تقوم على التقوى.

وهذا النموذج أسقطته حروب العصبيات، ففي حروب العصبيات، يغيب مشروع "الإسلام" الذي حرم قتل النفس الإنسانية دون حق، بقوله سبحانه:

﴿وَلَا تَقۡتُلُوا۟ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومࣰا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِیِّهِۦ سُلۡطَـٰنࣰا فَلَا یُسۡرِف فِّی ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورࣰا﴾ [الإسراء ٣٣]

وفي حروب العصبيات يغيب مشروع "الإسلام" الذي حذر المؤمن من قتل أخيه المؤمن بقوله سبحانه:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن یَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـࣰٔاۚ ……﴾ [النساء ٩٢].

﴿وَمَن یَقۡتُلۡ مُؤۡمِنࣰا مُّتَعَمِّدࣰا فَجَزَاۤؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَـٰلِدࣰا فِیهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِیمࣰا﴾ [النساء ٩٣].

ففي حروب العصبيات تغيب رايات الإنسانية والدين والوطن والشعب، وتطغى رايات القتل والدمار.

الحصاد المر.

كما قال مالك بن نبي رحمه الله (إذا غابت الفكرة برز الصنم) وفي حروب العصبيات غابت فكرة دين الإسلام، فبرزت أصنام الهيمنة والعصبيات بمختلف مسمياتها، وبعبادة أصنام عصبيات الهيمنة، برز دينها الأوحد في الهيمنة على السلطة والثروة، وغابت عبادة الله، وغاب منهجه في الأخوة الإيمانية والإنسانية، فجميع حروب الهيمنة بكل مدخلاتها العنصرية والعصبية والحزبية والقبلية والمناطقية، أدخلت اليمن في حروب الهيمنة العصبية، وكل عصبية تحاول الهيمنة على السلطة والثروة والغاء الأخر، وهذه الحروب لم تحمل لليمن غير مشاريع الموت والدمار.

ولو حصرنا المشهد في تاريخه المعاصر، شمالًا قبل الوحدة، فلو كان ثوار سبتمبر قوميين ويساريين وقبائل تركوا هيمنة العصبيات، وقبلوا ببعضهم لما حدثت مذابح أغسطس وانقلاب ٥ نوفمبر، ولو قبل قادة ١٣ يونيو ببعضهم لما قتلوا بعضهم.

ولو حصرنا المشهد في تاريخه المعاصر، جنوباً قبل الوحدة، فلو كان ثوار جبهة التحرير والجبهة القومية، تركوا هيمنة العصبيات وقبلوا ببعضهم، لما تقاتل الثوار مع بعضهم قبل الاستقلال وبعده، ولو كان قادة الحزب الاشتراكي تركوا هيمنة العصبيات والمناطقية، وقبلوا ببعضهم، لما قامت أحداث يناير ٨٦.

ولو حصرنا المشهد في تاريخه المعاصر بعد الوحدة، فلو كان الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، وحزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح، تركوا هيمنة العصبيات، وقبلوا بالحزب الاشتراكي شريكاً فاعلاً في دولة الوحدة، لما حدثت حرب ٩٤ وتداعياتها،

ولو كان الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح وحزب المؤتمر الشعبي العام، تركوا هيمنة العصبيات وقبلوا بالتجمع اليمني للإصلاح، لما حدثت تداعيات ٢٠١١، ولو كانت المليشيات الحوثية تركت العنصرية الإمامية، وقبلت المشاركة لما حدثت حروب انقلابها الإمامي والتي تعصف باليمن لليوم.

ولو كانت الشرعية الجمهورية تركت هيمنة العصبيات والحزبية، وقبلت ببعضها لما انقلبت الإمامة على الجمهورية عام ٢٠١٤، ولو تركت الشرعية الجمهورية بعد انقلاب الإمامة وحتى اليوم هيمنة العصبيات والحزبية والمناطقية، وقبلت ببعضها لما استمرت المليشيات الحوثية الارهابية لليوم.

خلاصة الخلاصة.

التاريخ قصصه عبر واعتبار، ومعظم القرآن قصص للاعتبار، فهل نعتبر من حروب هيمنة العصبيات بمختلف مسمياتها، فلا خيار اليوم أمام مكونات الشرعية اليمنية، للانتصار على المليشيا الحوثية الارهابية، وبناء دولة الوطن الواحد، والمواطنة المتساوية، غير أن تعمل على ترك ثقافة وممارسة الهيمنة العصبية، للمذهب، والقبيلة، والحزب، والمنطقة، وتقبل ببعضها وتتعايش، في دولة يمنية اتحادية، تعطي كل يمني حقه في الحياة، وبدون ذلك ستستمر دورة حروب العصبيات في تدمير اليمن وتفتيته، وستتحمل مكونات الشرعية جميعها، أمام الله والتاريخ والشعب، مسؤولية استمرار معاناة الشعب اليمني وحروبه، فثقافة عصبية الغلبة، والهيمنة، والتفرد، والغاء الأخر، تصنع الحروب والدمار، ولا تصنع السلام والتعايش والاستقرار.

جمعتكم وعي لنبذ ثقافة الهيمنة بكل مسمياتها العنصرية والمذهبية والقبلية والمناطقية والحزبية لنعيش ونتعايش ونبني اليمن ومستقبله.

د عبده سعيد المغلس

١٠-٥-٢٠٢٤

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي