المقالح ليس شاعراً

زين العابدين الضبيبي
الاربعاء ، ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٢ الساعة ١٠:٢٧ صباحاً

قد يستغربُ القارئُ، عنوانَ هذه السطور، وربما يُصْدَمُ لارتباطِ شخصية الدكتور في ذهنه بلقب “الشاعر الكبير”؛ لكنه بالفعل ليس شاعراً فقط، وأنا أتحدثُ هنا في سياقِ العبارةِ المأثورةِ: “كلما اتّسَعَت الرؤيةُ ضاقت العبارة”؛ هذا ما يتبادرُ إلى ذهني بمجردِ ذكرِ الدكتور عبد العزيز المقالح، أو الحديثِ والكتابةِ عنه.

ولأن رؤيتي حول الدكتور المقالح، وما يَكْفَلُهُ لي القربُ من معرفةٍ بحياةِ ومنجزِ هذا المعلِّم الكبير، تَنْبُعُ من معرفةٍ تمتدُّ لسنواتٍ طويلةٍ، تجعل من المهمة أكثرَ صعوبةً. فكلما حاولتُ الإمساك بخيوط الكتابة عنه، تتشعَّبُ التفاصيلُ وتتعدَّدُ المواقفُ حدَّ أنَّ كلَّ جزءٍ منها يحتاجُ لصفحاتٍ لا حصْرَ لها.

ولأن “القُرْبَ حِجَابٌ”، كما يقول أهلُ التصوُّف، فالحديثُ عن قامةٍ بحجمِ الدكتور المقالح أكبرُ من أن يُخْتزل، وأكبرُ بكثيرٍ من مَقْدِرَتي. وأنا لستُ سوى غصنٍ في غابةٍ دائمةِ الربيع؛ فها هي الكلماتُ تتعثَّرُ، حتى تكادُ أن تجفَّ وتتخثَّرَ في فمي. فلَوْلا ذلك الربيعُ لما كان هذا الغصن .

ولتوضيح العنوان، ها أنا لا أدري هل أتحدّثُ عن المقالح الشاعر؟ أم الثائر؟ أم الناقد؟ أم المفكر؟ أم الأكاديمي؟ أم الأب؟ أم المؤسس؟ ويندرج تحت هذه الأخيرة الكثيرُ من التفاريع؛ فهو ليس المؤسسَ الأولَ لحركة الحداثة، بِشِقَّيْها الشعريِّ والنقديِّ، في البلد، ورائداً من رُوَّادها في العالم العربي فحسب؛ بل وكذلك المؤسس لما شهدته اليمن من حركةٍ علميةٍ. وأعني هنا التعليمَ العاليَّ والأكاديميَّ، منذُ تَوَلّيهِ رئاسةَ جامعة صنعاء، وهي مجردُ مبنىً يتيمٍ بعددٍ محدودٍ من الطلاب. فما هي إلا سنواتٌ حتى وجدناه يُسْهِمُ في تأسيسِ أغلبِ الجامعاتِ والكلياتِ على امتدادِ الوطن، بما في ذلك المربعات والمناطق التي ظلَّتْ مُغْلَقَةً بتأثيرِ وهيمنةِ القِوَى الرَّجْعيَّة، منذ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، وحتى وَضْعِهِ لحَجَرِ أساسِ أولِ مبنىً تعليميٍّ عالٍ فيها، ومنها -تمثيلاً لا حصراً- محافظةُ عمران وخَمِرْ وأَرْحَبْ وحَجّة وعَبْس وخَوْلان… الخ.

نعم، لقد أنجز ذلك بسعيٍ حثيثٍ، وبإصرارٍ وعزيمةٍ لا حدودَ لهما؛ إيماناً بحقِّ الشعوب في التعليم وأهميته لها، ليمضيَ هادماً لكلِّ أسوار الجهل التي أطْبَقَتْ على عقول الأجيال اليمنية لعقودٍ طويلة.

لم يقِفِ الأمرُ على التأسيس فقط؛ بل استغلَّ مكانتَه وصِيتَهُ ليجعلَ من جامعة صنعاء وغيرِها ملاذاً وقبلةً يحج إليها نخبةٌ من أَمْهَرِ وأشهرِ أكاديميّي العالم العربي، وفي مختلف التخصصات، لتصبح واحدةً من أهمّ الجامعات في المنطقة العربية، والتي ما كان لها أن تكون كذلك لولا ما يتمتع به المقالح من مكانةٍ وحضورٍ في وجدان الأمة، وما يتمتع به من رؤيةٍ ثاقبةٍ وإيمانٍ عميقٍ بأن العِلْمَ وَحْدَهُ القادرُ على النهوض ببلادٍ رزحتْ في ظلام التخلف لعقودٍ من الزمن؛ فكان له ذلك، وكانت البلادُ على موعدٍ مع النور والخلاص من براثن التخَلُّف والأُمّيّة.

وكما اهْتَمَّ بالمبنى والكادَرِ، فقد وفَّرَ للطالب -وخصوصاً أبناء المناطق النائية- الرعاية والدعم والتسهيلات المادية والمعنوية، حدَّ توفيرِ الإعاشة والسكن والرواتب الشهرية؛ في سابقةٍ لم يكن وصل إليها الكثيرُ من دول الجوار إلا في مرحلة متأخرة، ليترك الجامعة وقد تضاعف عددُ طلابها عشراتِ الأضعاف، وتعددت مبانيها وفروعها؛ فمنها ما يقع تحت إشراف الجامعة الأم التي يرأسها، ومنها ما صارتْ تتمتع بالاستقلال التامِّ في كثيرٍ من محافظات الجمهورية، بعد أن أقام صرحَها ووفَّرَ لها الكوادر والخبرات. وأنا هنا لا أُلْقي الكلامَ على عواهنه.

فكل ما أوردْتُه يعرفُه كلُّ من عاش تلك الحقبة، وقد سَمِعْتُه من الذين عايشوا تلك الفترة الذهبية من تاريخ اليمن، وما شهدتْهُ من انفتاحٍ واتساعٍ كميٍّ ونوعيٍّ لمساحة التعليم العالي في أرجاء البلاد، ليصبح العلْمُ حقاً مكفولاً للجميع، بعد أن كان الوصولُ إلى الجامعة حلماً بعيد المنال لأبناء الفلاحين وعامة الشعب وحكراً على طبقةٍ بعينها.

المقالح لم يكن يوماً شاعراً أو شخصيةً اعتباريةً أو إبداعيةً فقط؛ بل كان مؤسسةً وطنيةً متكاملةً تضع بصماتِها في مختلف مجالات الحياة إبداعاً وتوثيقاً وبناءً متنوعاً، لم يقتصرْ في مجال اختصاصه أو في ما يعود عليه وحدَهُ بالنَّفْع، كما فعل سواه.

لقد كان هَمُّهُ -ولا يزال- أكبرَ من ذلك؛ فهو لم يرَ نفسه يوماً غيرَ صاحبِ رسالةٍ ومسؤوليةٍ لا حدود لهما، بعيداً عن المكاسب الذاتية أو السلطة الزائفة. فهو الزاهد عن المناصب، والراهب الذي ترك العالم وراء ظهره ليُسَخِّر كلَّ وقتِهِ وطاقته وحياته من أجل الأرض والإنسان، على حساب نفسه وأسرته. فما أينعتْ له بذرةٌ هنا إلا واتّجَهَ ليزرع بذوراً هناك.

المقالح، الذي ترك كرسيَّ رئاسة الجامعة بعد مسيرةٍ حافلةٍ بالعطاء والمنجزات، عاد إلى قاعاتها معلماً يفيض على طلابه بما تشرّبَه من المعارف والعلوم، فاتحاً بابَ مكتبه صباحاً لكلِّ مَنْ قَصَدَهُ لأي غايةٍ أو هدفٍ، ومشرعاً أبوابَ قلبه ومنزلَهُ مساءً لأحِبَّتِه ولكلِّ هُواة الكلمة ولكلِّ المريدين والسالكين في دروب الإبداع، محتفياً بهم ومُرَحِّباً مضيافاً ومُوجِّهاً ناصحاً، لا يكِلُّ أو يمِلُّ أو يقسو حتى على من عَشَّشَ الوهمُ في نفوسهم.

المقالح.. كتابُ الحبِّ المفتوحُ وصاحبُ أكبرِ عددٍ من غيوم المحبة وأَكُفِّ العطاء التي هطلت حيناً فأنبتت شعراً مختلفاً ألوانه في كل خيالٍ خصبٍ، وحيناً كانتْ مطراً في صحراءَ قاحلةٍ؛ لكنها هطلتْ وأغدقتْ لتبرهنَ على عدالة الحب والإنصاف، ولم تنتظر النتيجةَ أو نصيبَها من الثَّمَرِ، ولم تَسْلَمْ من شَوْكِ التنكُّر والجهل، ولم تتعبْ أو تكُفَّ انثيالاتُها تحت أيِّ ظرفٍ، رغم ما حفرتْهُ مناخاتُ الحياةِ والسنواتِ من أخاديدَ في القلب والجسد والذاكرة.

المقالح، الذي قابل أعداءه بباقاتٍ من وَرْدِ الصمت والغفران، حين أشهروا السيوفَ في وجهه، واستلَّ قلمَه وصوتَه مغموساً بحبر التسامح، حين وقَعَ خصومُهُ القُدامى -كما نصَّبوا أنفسهم- في قبضةِ تقلُّباتِ الزمن؛ فكان أولَ من وقفَ مُدافعاً عنهم، مندداً بما طالهم من ضَيْمٍ، حتى عادُوا سالمِينَ غانمِينَ، بكل أخلاق الفرسان والنبلاء.

المقالح، الذي لم يصطدمْ يوماً إلا بوجع الناس ليحْمِلَهُ على ظهرِهِ حتى انحنى وتقوّس، وهو يعتصرُ روحه ليصُوغَ معاناتَهم بلغةٍ أنيقةٍ تتصدَّع لها الجبالُ؛ فكيف بقلوب البشر؛ فنجح في إيصال رسالتهم بقدرِ ما استطاعَ. وفشل أحياناً؛ لكنه لم يكِلَّ يوماً أو يتوقفْ، رغم ما تَوفَّرَ له من حياةِ رفاهيةٍ وفرصٍ يحلم ببعضها سواه ليعيش وحده بسلام، لكنه لم يلتفتْ لها يوماً، منحازاً إلى عامة الشعب الذين ينتمي إليهم ويعبِّر عنهم في كل نافذةٍ ووسيلةٍ ممكنة.

المقالح، الذي بدأ حياته مذيعاً في إذاعة صنعاء ومُعلِّماً في مدرسة الأيتام، بعد أن عَلَّمَ نفسَه بما وَقَعَ بين يديه من كتبٍ كان ينقلها مِنْ وإلى رفقاء والده في سجنِ حَجَّةَ وخارجها، وما تحَصَّلَ عليه من معارفَ في الكتاتيب؛ حتى أشرقتْ شمسُ الثورة المباركة، التي كان أحدَ أقطابها تنظيراً وتخطيطاً، إلى أن فتحتْ له “عين شمس” أبوابها، لم ينشغلْ بسوى العطاء الإنساني النبيل، نازفاً سنواتِ عمره على الصفحات عالِماً ومعلِّماً ومبْدِعاً ومفكِّراً، ومترجماً لأشواق الأمّة اليمنية وتطلعاتها، وترجماناً لكل آهاتها وابتساماتها، وحادياً لأجيالها في دروب المعرفة والإبداع والنور، حتى صار مَعْلَماً من معالم اليمن يشار إليه هنا أو هناك، وصار الأبَ الكافلَ لكلِّ أيتام الكلمة والإبداع.

ولعلّني أتذكّرُ في هذا الصددِ عبارةً سمعتُها قبل سنوات من ناقدٍ سوريٍّ، نقلاً عن والده، وهو يشد رحالةً مُتوَجِّهاً لليمن في بداية الثمانينيات؛ حيث خاطبه قائلاً: “إذا وصلتَ والتقيتَ بالمقالح والبردوني، فارجِعْ لأنك قد وجدتَ كُلَّ اليمن”. هكذا يرى العالمُ المقالح وينظر إليه؛ فكيف ننظر نحن؟

وهل يكفي، ونحن نحتفل بيوم الشعر العالمي، أن نحتفي بالمقالح ونحْصُرَه داخل صفة “شاعر”؛ وهو الذي قسَّمَ جسمَه في جسومٍ كثيرةٍ! وهو كلُّ هذه الأنهارِ والظلالِ الوارفة من العطاء والمواقف، والإرث الذي لم نغترفْ منه سوى اليسيرِ جداً!

إن الدكتور عبد العزيز المقالح هو آخرُ مداراتِ الضوء في واقعِنا المظلمِ، وأصفى ينابيعِ الأرض اليمنية بعد أن أكَلَها الجَدْبُ وعَشْعَشَ فيها الخرابُ، وهو حكيمُ البلاد في زمنٍ يعج بالمجانين والحمقى، وهو عنوانها الجميل الباقي، بعد أن تصدرتْ كلُّ عناوين الموت والدمار في كل شاشات العالم.

المقالح هو كلُّ المتبقّي فينا من عَبَق اليمن الذي نُحِبُّ، والرجالِ الذين نهتدي بهم، وهو المَعْنى الأكبرُ المتضمِّنُ لكل معاني المحبة والإخلاص، وهو ربيعُ الشعرِ والمعرفةِ وشاعرُ الوطنِ الذي تربَّعَ على عرش قلبه، واحتلَّ كلَّ مساحات خياله وروحه وكلماته، وهو نايُ الحرية وشمسُ اليقين وحارسُ نخيلِ التاريخ والمستقبل… فسلامٌ عليه كما يلِيقُ بكلِّ هذا البهاء، وكما يليقُ بقلبه: أصدقِ مرايا اليمن وأكبرِ عشاقها.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي