في وطنٍ مزقته الحروب، تبرز الحكايات كمرآة تعكس مآسيه وصراعاته، بعضها يُروى همسًا في المجالس، وبعضها يُكتب بدماء الأبرياء على جدران المدن المنكوبة. لكن أغرب الحكايات هي تلك التي تتجاوز حدود المنطق، كأن يصبح السارقُ قاضيًا، والشريفُ متهمًا، والحاميُ حراميًا!
الحاكم... لصٌ بمرتبة مسؤول
بدأت القصة عندما فرض مجلس الأمن عقوباتٍ على المدعو "أبو علي الحاكم"، واسمه الحقيقي عبد الله يحيى الحاكم، بتهمٍ شملت كل أنواع الجرائم إلا السرقة، رغم أنه اشتهر بها بعد انقلاب الحوثيين، وخاصة بنهبه لمقتنيات الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح، حتى إنه ظهر في أكثر من مناسبة وهو يتباهى بها!
لم يكن الحاكم وحده في هذا المسار؛ فقد اجتاحت موجة السرقة البلاد، وشملت كل شيء، من القصور والعقارات إلى الجنابي الثمينة، ومن المعسكرات إلى المؤسسات العامة والخاصة، مرورًا بالأسواق السوداء وتهريب السلاح. حتى البشر لم يسلموا من المتاجرة بهم، إذ تحول النهب والبيع والكسب غير المشروع إلى سياسة ممنهجة.
لكن ما حدث لاحقًا كان أكثر غرابة!
"فهد السارق"... من اللصوصية إلى منصة القضاء
في محافظة إب، كان هناك شاب يدعى فهد، عُرف بين الناس بالسرقة والاحتيال. بدأ حياته بسرقة الدجاج، ثم تطور إلى سرقة الدراجات النارية، حتى أصبح محترفًا في نهب السيارات. لم يتبرأ منه المجتمع فحسب، بل حتى أقاربه نبذوه، فأصبح يُعرف بـ"فهد السارق".
مع تفشي فساد الحوثيين في مؤسسات الدولة المتغصبة، لم تعد المناصب تُمنح لأهل الخبرة، بل صارت تُباع لمن يدفع أكثر أو يُثبت ولاءه. وهنا قرر فهد أن يغير مساره، ليس بالتوبة، بل عبر التسلل إلى القضاء الحوثي!
من لص إلى رئيس محكمة!
في زمن الحوثي، انتقل "فهد" إلى ذمار، حيث كانت فرص الفاسدين والسُرّاق أكبر، فتمكن من التكيف مع الأوضاع هناك، ولم يواجه صعوبة في شق طريقه داخل "القضاء الحوثي"، حتى أصبح رئيس محكمة!
أما القضاة الأكفاء، فقد تم إقصاؤهم، سجنهم، أو تهجيرهم. بعضهم، كالقاضي عبد الوهاب قطران، تعرض للاعتقال لأنه تجرأ على قول الحقيقة. أما البقية، فقد حلت محلهم مجموعة من الموالين للحوثيين، تحت إشراف محمد علي الحوثي، الذي بات "قاضي القضاة"، يصدر الأحكام كيفما شاء ومتى شاء!
القضاء الحوثي في خدمة الفساد
لم يكن "فهد" سوى جزء من منظومة فاسدة، حيث صار القضاء أداة للنهب والاستبداد. بفضل منصبه، جمع ثروة هائلة، اشترى العقارات، وبنى الفلل، حتى أصبح يُشار إليه بالبنان... والبنيان!
أما المواطن البسيط، فقد أُغلقت في وجهه أبواب العدالة، وصارت المحاكم تعدم الابرياء، وسوقًا تُباع فيها الأحكام لمن يدفع أكثر.
وطنٌ مختطف بين تجار الحروب
في مناطق سيطرة الحوثيين، تحولت الحياة إلى سجنٍ كبير، وصار التنقل مشروطًا بتصاريح وموافقات أمنية. أما من تمكن من الفرار، فقد استُقبل في مناطق الشرعية بحفاوة، ليس بالضرورة ككفاءة وطنية، بل أحيانًا كنكاية بالحوثيين!
لكن الحوثيين لم يكونوا عاجزين عن الرد، فقاموا بتصدير البعض كمنشقين والبعض كخلايا تجسسية إلى مناطق الشرعية، مهمتها تهريب السلاح والعملات، وجمع المعلومات، وإحداث الفتن. بعض أفراد هذه الخلايا ادّعوا الانشقاق عن الحوثيين، ونجحوا في الاندماج داخل مؤسسات الشرعية، قبل أن يعودوا لاحقًا إلى صنعاء كـ"مغرر بهم"، حيث يُستقبلون في ميدان السبعين بالأهازيج، ويُستخدمون لاحقًا في حملات إعلامية ضد الشرعية!
ومن بين هؤلاء كان الضابط أحمد محمد بنه، الذي انشق عن الحوثيين وعمل في المخا، لكنه عاد لاحقًا إلى صنعاء مدعيًا أنه "اكتشف الحقيقة". حاول لاحقًا انتقاد الحوثيين داخل صنعاء في محاولة لإظهار أنهم يتقبلون الرأي الآخر، لكنه اصطدم بالواقع، وتعرض للضرب، فأدرك حجمه الحقيقي... لكنه كان قد فقد كل شيء!
اليمن... بين فساد الحوثيين وتخاذل الشرعية!
في الحقيقة، لم يضِع اليمن بسبب "فهد" وحده، لكنه مجرد مثال على انهيار منظومة كاملة:
في مناطق الحوثيين، نُهب كل شيء، حتى القضاء، وأصبح أداة للقمع والابتزاز.
في مناطق الشرعية، عجزت القيادات عن تحرير البلاد، واكتفت بخطابات رنانة، وعندما حاولت مكافحة الفساد، واجهها المتنفذون بتجميد الخدمات الأساسية، كما يحدث في عدن، حيث تغرق المدينة في الظلام بسبب الفساد في قضية وقود محطة كهرباء عدن.
والنتيجة؟ ضياع وطن بأكمله!
في هذا المشهد العبثي، لم يعد هناك فرق واضح بين الوطني والخائن، بين اللص والشريف، بين القاضي والسارق، فقد أصبح السارق قاضيًا، والقاضي مسجونًا، والوطني عميلًا، والخائن وطنيًا!
هكذا تُختزل مأساة اليمن، في قصة "فهد"، التي تجسد خراب البلاد وفساد العباد... فهل هناك من يوقف هذا العبث؟!
وليلتكم سعيدة، وجمعتكم مباركة مقدمًا.
-->