أيوب طارش.. زرياب اليمن

توفيق السامعي
الأحد ، ٢١ مايو ٢٠٢٣ الساعة ٠١:٣٤ صباحاً

هو زرياب اليمن وموسيقاها وألحانها المرهفة، يعيش مع اللحن والموسيقى بإحساسه المرهف، وصوته العذب الندي، ومقاماته الساحرة.

يتفاعل الفنان أيوب مع كلماته فيذوب داخلها لتخرج لحناً مصفى من أعماق روحه ووجدانه، تسلك أنغامها أفئدة كل المستمعين له المتذوقين لطربه.

لم يكن ناقدوه أفضل حالاً من الملهم الأول الشاعر الأديب صاحب الأحاسيس المرهفة عبدالله عبدالوهاب نعمان، ولا حق لذائقتهم الشعرية أن ترقى درجة من سلم ذائقة الفضول، الذي كان لا يجيز أغنية لأيوب طارش حتى تستحوذ ألحانُها ومقاماتُها على شغاف قلبه ووجدانه.

اجتمع لأيوب طارش ذائقته الموسيقية، وذائقة الفضول الشعرية، فامتزجتا في أغانيه، لتخرج بكل تلك الروعة والبهاء والإحساس الذي تنقلك كلماته إلى آفاق رحبة فتحلق بك في سماوات الفن الأصيل قديمه وحديثه، وتهيج أشجان أزمنة وأمكنة كل اليمنيين، يعكس بألحانه كل طبقات وتفاعلات أبناء اليمن، والتحليق بها في محيطه العربي.

أغاني أيوب طارش لم يكن محلها اليمن وحسب، بل انتشرت في دول الخليج، ويقلدها فنانون من المغرب العربي، ويحملها اليمني في كل موطن يذهب إليه في أقاصي المعمورة؛ فهي تحرك وجدانه الأزلي وأحاسيسه ووطنيته وهويته الأبدية.

أيوب ليس انعكاساً لنفسه فقط، بل هو كل شخصية يمنية، وهو وجه عبدالله عبدالوهاب نعمان.. ارتقى بعزة نفسه حتى لا يكون مدندناً في مجالس المسؤولين، ولا متكسباً بأغنيته في مقايل وحفلات النفاق والأعراس. غنى للوطن وللأرض وللزراعة وللمناسبات الوطنية وللجمهور وللشعب، كل الشعب، وللحب وللمغتربين، مستنهضاً مكامن اليمنيين ونخوتهم ووطنيتهم وأعمالهم واقتصادهم وحكمتهم وتعاونهم وكل شيء جميل فيهم، وذلك ما جعله يتخير القصائد والكلمات التي يغنيها البعيدة عن الإسفاف والابتذال.

لكل فنان مرحلته وعمره الذي يستطيع أن يبدع فيه ويعطي أفضل مالديه، وله مرحلة جيب أن يتوقف عندها ولا شك، وذلك حينما يبدأ صوته بالتغير ولا يناسب أداؤه ألحانًه وكلماته ومقامه.

صحيح أن الأغنية الأخيرة لم تلبِ الذوق العام، ولم تكن عند مستواه، وكان الأفضل أن يتوقف عند تغير صوته الذي ما ألفه الناس كصوته القديم، وكذلك كلماتها غير الرصينة؛ نظراً لما علمه الجمهور اليمني ومحبو أيوب من إبداعه الخلاق وكلماته المعبرة والجزيلة، لكن كل ذلك ليس سبباً في التحامل عليه، أو نسف محصلته الإبداعية التاريخية، وليس من الأدب ولا من النقد والتقويم التجريح والتسفيه والتسفيف لشخصه أو شخص غيره.

يغلب على الإنسان؛ أي إنسان مبدع، سواء كان فناناً أو شاعراً أو ناقداً أو مهندساً أو عالماً أو صحفياً أو أديباً، أو أي من المجالات، يغلب عليه إبداعٌ ما قد تكون نسبة الغلبة 60% أو 70% أو 80% فيُحمل على إبداعه في هذه الغلبة فيسمى مبدعاً، ولا تكون بقية النسبة هي الطاغية عليه أو هي مقياس وزنه وتقويمه ونسف تاريخه، ولا يحكم عليه من أغنية واحدة أو أغنيتين أو ثلاث، بل يحمل على الغالب الإبداعي منها.

في كل النقد الأدبي عبر التاريخ سواء للشعراء الجاهليين أو الإسلاميين أو الأوروبيين أو العرب، أو الفنانين المطربين لم ينالوا درجة عالية من النسبة التقويمية التي توصلهم إلى 10% أو 90% لكن كثيراً منهم اشتهر بمجال من مجالاته لبعض الترجيح وليس لوصول الكمال في كل شيء، فالكمال صفة ربانية والنقصان صفة إنسانية.

هناك فنانون اشتهروا عبر التاريخ لكنهم لم يكونوا بصفة الكمال بل بغلبة الجانب الإبداعي عليهم على الجانب الركيك في أعمالهم، ومع ذلك صاروا مدارس في فنهم.

ليست كل أغاني أم كلثوم أو عبدالوهاب أو عبدالحليم أو فيروز أو أبو بكر أو محمد عبده أو غيرهم، ليست كلها مرضية عند النقاد والأدباء والجمهور، إلا أنهم غلب عليهم الرضى في أعمالهم، وهكذا ننظر نحن إلى الفنان أيوب طارش في اليمن. 

يكفي أن أيوب هو من يلحن لنفسه، ولا يعتمد على الآخرين، ولا يشتري الألحان الجاهزة من الغير.

أيوب مدرسة يمنية في الفن لم يأت أحد بعده بنفس أدائه، وربما لن يأتي في المستقبل المنظور؛ لأن أيوب صاغته عدة عوامل، منها زمنية، ومنها ثقافية، ومنها ظروف محيطة وتحول تاريخي في البلاد العربية.

نشأ أيوب طارش في عدن وتعلم القرآن والقراءات في معهد البيحاني، وكان لحفظه القرآن وتعلمه وتلحينه، وقراءة مقاماته الدور الأبرز في صناعة أيوب الفنان الملحن، وكان لفترة التحرر من الاحتلال البريطاني، وما ارتبط بذلك من إنتاج الأغنية العربية التحررية في الوطن العربي دور آخر من التأثير عليه، وكان للجوانب الأدبية والفنية والشعرية في ذلك الزمن وتأثير المدارس الأدبية من رومانسية وكلاسيكية وواقعية دور آخر في صياغة الفنان أيوب وتشكيل ذائقته الطربية المقامية والشعرية كذلك.

كان الفضول يمثل مدرسة شعرية فنية بحد ذاته مزج بين كل تلك المدارس من كلاسيكية وواقعية ورومانسية، وهو ما عكسته قصائده الشعرية، وعكست نوعاً من التجديد عنده مزج فيها بين الواقعية العامية وبين التجديدية والرومانسية كذلك، وكان أيوب كفنان انعكاس لهذا التجديد، وتلك العوامل صيغت فنيته وألحانه، وكان انعكاساً للفضول.

أن يقال عن أيوب أنه فنه وكلماته قروية فهي جهل مطبق بحق الرجل، وتحامل غير مبرر لن يضر أيوب ولا جمهوره، وقد رأينا جمهوره ينتفض دفاعاً عنه، والدفاع عنه هنا دفاع عن ثقافة ووجدان الشعب الذي تخلق بأغانيه وتحلق بأنغامه.

للعوامل السابقة الذكر نجد من الصعوبة بمكان في هذا الزمن المسف من الثقافة الركيكة والإبداعية أن يتخلق فنان آخر كأيوب.

أثق أن في التحامل على أيوب دوافع أخرى غير الجانب الفني فيه، وهي أن مصالح الانفصاليين كما هي مصالح الإماميين تتحامل على الحالة الإبداعية التي أنتجها أيوب في مواجهة كلا المشروعين، وقد بدأت مع بعض الحوثيين أثناء وبعد الانقلاب لمحاولة محو وطمس آثار الأغنية الوطنية التي قام بها أيوب لأنها تذكر الشعب بالثورة والتحرر وتحمس وتعزز جوانبه الوطنية في كل المجالات.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي