ملكة سبأ بين الجدل التاريخي والتدوين الأسطوري.. دراسة تحليلية في ضوء النص القرآني (الحلقة الخامسة)

توفيق السامعي
الخميس ، ١١ مايو ٢٠٢٣ الساعة ٠٢:٣٤ مساءً

سبأ وعبادة الشمس والهدهد

 

لا توجد نقوش مسندية عربية شمالية تذكر مملكة سبأ في الشمال، ولو ذكر منها على سبيل النادر فيذكر اسم سبأ كارتباط بالجنوب لا كمملكة قائمة في الشمال. 

كما لم يتم أي كشف من هذه النقوش والآثار التي تحدد إسم "سبأ" لا في دومة الجندل ولا "معان" ولا ددان العلا ولا غيرها، بينما الحاصل أن معظم النقوش اليمنية المكتشفة حتى اليوم تذكر الكثير جداً من مراحل مملكة سبأ وملوكها وأحداثها وأشخاصها في عاصمة سبأ (مارب) أو غيرها من التي وجدت متناثرة في أكثر من محافظة يمنية، بل وبعضها حدد عاصمتها مارب، وهنا يزيل بقية التكهنات والغموض. 

كما إن عبادة الشمس لم تكن إلا في أرض سبأ من اليمن والمناطق التابعة لها سواء في وسط الجزيرة أو شمالها أو حتى في الحبشة، ولم تكن في غيرها؛ فالقرآن الكريم لم يذكر اسم البلاد الشمالية، بل أشار إلى سبأ، وهي البلاد الجنوبية معلومة المكان والزمان والعبادة، وكما إن المعابد لآلهة الشمس منصوبة في مارب وليس في غيرها من المناطق، ويعتبر معبد (أوام) أضخم معبد في الجزيرة العربية كلها، إذاً فهو الأصل وما دونه الفرع؛ كون الفرع دون معابد شهيرة ومنصوبة.

فعبادة الشمس لم تكن معروفة إلا في اليمن، وبقايا المعابد موجودة، وبقايا قصر المعبد موجودة، ووصفت أنها كانت تعرف القراءة وأنها صاحبة علم، وأن العرب لم تعرف كقومية وأمة إلا في وقت متأخر، ولو كانت حبشية فحضارة أكسوم تعود للقرن الثالث قبل الميلاد على أكثر التقديرات، وعرف عن اليمن تملك النساء في فترات مختلفة. 

ولنحلل كثيراً من الوقائع والأحداث والأسماء والاتجاهات هنا للرد على هذا الرأي.

فإذا كانت مملكة وملكة سبأ المذكورة التي قابلت سليمان قريبة من مملكته في الشمال فكيف لم يعرف سليمان بمملكة سبأ، وهي من الشهرة بمكان، مع كافة إمكانيات سليمان المخابراتية التي تفوق العقل من ريح وطير وجن؟! 

وكيف وصل ذكر دولة سبأ إلى مملكة "أورو" في العراق، كما وردت في النقوش السومرية، متجاوزة منطقة الشام، ولم يصل خبرها سليمان بن داوود صاحب الملك العظيم والإمكانيات العظيمة والمخابرات الأعظم من ريح وجن وطير ووحش، ودولته أقرب مكاناً لليمن منها إلى العراق؟!

فكيف لمملكة عظيمة تمتلك كافة الإمكانيات التي تفوق العقل والوصف لا تعرف جارتها المحاذية لها أو القريبة منها؟!

هذا فضلاً عن أن كتب العهد القديم تذكر أنه كانت هناك تجارة بين السبئيين ومملكة سليمان في الشام، فكيف لم يبلغ التجار سليمان بهذا المُلك ويعرفونه بالمملكة؟!

لنأخذ مثلاً آلية من آليات وإمكانية من إمكانيات سليمان، وهي الريح، فلقد كان المدى المكاني ومسافة السير التي تقطعها الريح المرسلة بأمر من سليمان مسير شهر ورواحها شهر كذلك، بحسب النص القرآني؛ أي: المد المكاني والمسافة الزمنية، وقيل – بحسب بعض مفسري القرآن- إنها كانت تنقل له الأخبار، فكيف لم تنقل له خبر مملكة سبأ إذا كانت قريبة من مملكته سواء في معان الأردن، أو دومة الجندل أو شمال الجزيرة أو غيرها؟!

فقد جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾( ).

هذه المسافة المكانية حدد مدتها بعض زعماء قريش في محاجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم- في قضية الإسراء إلى بيت المقدس.

فحين كذّبت قريش النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء بليلة واحدة، بينما هم يضربون لها أكباد الإبل شهراً كاملاً غدوة وشهراً روحة، فقال أكثر الناس: "هذا والله الأمر [العجيب] البيّن، والله إن العير لتطرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟!"( ).

فبالمقارنة بين ما قالته قريش للنبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء وبين المسافة المكانية التي تقطعها ريح سليمان فإن أقصى معلوماته ومدى استخباراته كانت حتى حدود هذه المسافة؛ أي إنها ربما تصل إلى مكة فقط أو قريباً منها، ومسافة دائرية كذلك في كل النواحي، فإن كانت أرض "سبأ" المعنية في بلاغ الهدهد قريبة من مقر ملكه في الشام، كمعان مثلاً، أو دومة الجندل، أو شمال الجزيرة، كما قال الدكتور عيد اليحيى*، فإن خبرها لن يخفى على سليمان وقد جاءه الهدهد بهذا الكشف الاستخباراتي العظيم، ووقف مزهواً يفاخر به سليمان نفسه، مما جعل سليمان يستنفر كل إمكانياته لمعرفة هذه المملكة وملكتها التي لا تؤمن بالله، وأنه لا بد أن يدعوها لدينه، ﴿فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾( )!

لكن المستغرب هنا أنه قال جئتك بـ"نبأ"، ولم يقل بـ"خبر"؛ فالنبأ يكون للغيب، والخبر يكون للواقع، ولو لم تأت الآية بعد هذا القول لتوضح السابق وتؤكده لقلنا إنه تلقى المعلومة تلقياً غيبياً من مصادر أخرى، حتى وإن كانت حقيقية، لكنه قال مؤكداً بنفسه مشاهدة وحضوراً: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾( )، فكل الألفاظ هنا لتأكيد هذا الخبر والمعاينة والمشاهدة الشخصية (إني، وجدت، أوتيت من كل شيء، لها عرش عظيم)، ثم زيادة لتوكيد المؤكد بالحضور والإيجاد ﴿وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله﴾، وهذا رد على بعض الروايات التي تقول إن هدهد اليمن لقي هدهد الشام فأخبره بهذه المعلومة إخباراً ولم يتحقق منها هو بنفسه، وشبهتهم في ذلك أن الهدهد لا يستطيع قطع كل تلك المسافة في أيام معدودة، وكذلك أنه لم يغب كثيراً عن سليمان، مع أن حالة سليمان الاستغرابية كانت واضحة جداً لفقدان الهدهد وحضوره من بداية زحفه بجيشه وحاشيته من مقر الملك قاطعاً وعابراً وادي النمل، وبعد مضي تلك المدة استعرض حاشيته وتفقدها فلاحظ غياب الهدهد الطويل بعد كل ذلك، وهذا يأخذ وقتاً من الغياب ﴿وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين﴾؟!

وتفسير النبأ والخبر هنا وكأنه نبأ غيبي عن سليمان لكنه خبر حضوري بالنسبة للهدهد الذي جاء به بصيغة التأكيد مستعملاً أدوات التوكيد نفسه.

غياب الهدهد كان طويلاً ولافتاً للانتباه، بدليل استعراض سليمان كل جنوده من جن وإنس وطير وحيوان فلم يجده؛ لأنه كان عقد لهم استعراضاً حضورياً، كما يسمى اليوم عند الجيوش: تمام الاستعراض، أو طابور التمام، (تفقد الحضور والغياب)، وسياق الآيات القرآنية التي توضح ذلك واضح تماماً في أنه أول الأمر نظم جيشه أو أتباعه بحسب الجنس والفصيلة (فهم يوزعون) أي: يتمايزون فرقاً شتى، ثم الذهاب بهم والعبور عبر وادي النمل، وبعد ذلك العرض والحشد والعبور وتفقده كل شيء بينهم استبان غياب الهدهد الذي كان غيابه لافتاً أدى إلى غضب سليمان، وعزز ذلك بالقسم ليعذبنه أو ليذبحنه، لو لم يكن منه ذلك الاستثناء بإتيانه بحجة غياب مقنعة. وهذا الاستعراض لا يتم بشكل يومي، ربما بشكل أسبوعي أو شهري، أو مناسباتي، كما يتم استعراض الجيوش والقوات اليوم في الأيام الوطنية للدول وليس كل أسبوع أو شهر.

فغياب اليوم أو اليومين أو حتى أكثر قليلاً لا تستدعي عقوبة الموت أو التعذيب بل الغياب الكثير، إلا ما كان من أمر الاستثناء ﴿أو ليأتيني بسلطان مبين﴾، وهذه قاعدة مهمة جداً ينبغي على كل ذي مسؤولية أن يكون له استثناء من عذر وما شابه، وينظر لمثل تلك الحالات، فلربما كان المترتب على أمر المستثنى أمراً عظيماً وذا فائدة. 

فقد استخدم سليمان أدوات التوكيد اللفظي نفسها في معاقبة الهدهد وهي: لام التوكيد (لأعذب)، وفعل المضارع (أعذب)، ونون التوكيد للفعل المضارع (أعذبن)، والمفعول المطلق بعد ذلك (عذاباً شديداً)، وهذه عند اللغويين البلاغيين هي لوازم التوكيد، أو التوكيد وملحقاته.

إذاً: هذا الأمر يفسر أن الغياب كان طويلاً، وهي المدة التي قطعها الهدهد في معرفة عرش ملكة سبأ من مسافة زمنية بعيدة.

فمن أخذ بهذه الشبهة (أن الهدهد لا يمكنه قطع كل تلك المسافة بين مقر ملك سليمان واليمن) ليقلل من الفعل أولاً، وينفي القصة ثانياً، ويؤكد قرب المملكة من مملكة سليمان ثالثاً، لم يراعي أن المسافة الجوية لأي طائر لا يمكن أن يساوي بها المسافة البرية سيراً على الأقدام أو ركوباً على الحيوان؛ فالمسافة الجوية يمكن للطائر أن يقطع في ساعة واحدة ما يقطعه مسير الراكب على الأرض بما عليها من عوائق من جبال ووهاد وأثقال وغير ذلك بقدر يوم كامل أو يزيد؛ إذ ليس هناك من عوائق أرضية للطيور إلا الأمطار أو الجوارح المحلقة في السماء من طيور أخرى.

من جانب آخر، يمكننا هنا أن نستنبط أنه في ذلك العهد (عهد سليمان في القرن العاشر ق.م) كانت الرسائل من الرقوق أو الجلود مستعملة إلى جانب النقش على الحجارة أو الكتابة على الألواح، أو الحفر في الخشب، وذلك من خلال معرفة أن الكتاب الذي حمله الهدهد بالضرورة أن يكون شيئاً رقيقاً وخفيفاً متناهي الصغر وخفيف الوزن حتى لا يثقل الهدهد من ناحية ولا يعيق طيرانه من ناحية أخرى، وقد لا تتجاوز كلمات الكتاب تلك الكلمات الواردة في النص القرآني.

فالقرآن يلفت الأنظار ويستخدم الإشارات ولا يغوص في كافة التفاصيل. فمع موسى ذكر أنها ألواح وليس غير ذلك ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾( )، غير أنه ذكر في موضع آخر أنه كانت له صحف ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى﴾( )، و﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾( )؛ فالصحف لا يقصد بها الألواح، مع أن القرآن الكريم ذكر كتاب موسى مرة بالألواح ومرة بالصحف، فقد يكون الصحف معنى للمحتوى، والألواح المادة والوسيلة التي حوت التشريعات والكتابات. 

يقول المؤرخون، كما تقول التوراة: كان هناك تجارة بين سبأ ومملكة سليمان قبل ذلك التاريخ واللقاء، فلماذا لم يبلغ سليمان بذلك المُلك عن طريق التجار، ومعرفة أحوال مملكة عظيمة لها عبادتها الخاصة غير عبادة سليمان، وكان البلاغ عن طريق الهدهد فقط؟ أم إن الهدهد استفز سليمان بنوعية نقل الخبر وحسن التصوير، خاصة وقد استنكر سجود السبئيين للشمس من دون الله؟!

الحجر الصحفي في زمن الحوثي