خواطر رمضانية

موسى المقطري
الخميس ، ٢٣ مارس ٢٠٢٣ الساعة ٠٧:٤٦ مساءً

على مدى إحدى عشر شهراً تتقاذف النفس البشرية مثبطات الانجذاب نحو الدنيا ، فيأتي شهر رمضان ليحافظ على توازن النفس البشرية بتوجيهها نحو القيم الروحية الخالصة المرتبطة بالأخرة، ويحل الصوم كنشاط بدني يعزز السمو البشري، وتزداد أجور العبادات ليزداد التعلق بالأجر والثواب، وهذا كله يحقق التوازن لدى النفس البشرية ، ويضمن عدم انجرارها المطلق نحو الدنيا، وبالتالي ضمان عدم نسيان المسلم للتعبّد كغاية لأجلها كان الخلق .

الصيام عبادة روحية في الأساس ، ولذا كانت نتيجته مرتبطة بالروح بشكل مباشر ، والجسد وما يتعلق به في حال الصيام خُداماً لاغير في ظل هذا الارتقاء الروحي، ولطالما ذكر الصائمون بغرابة كيف يتأقلم الجسد مع التغيرات التي يحدثها الصيام، ويختفي الأثر المانع أو المثبط ، وتفسير ذلك باختصار أن دوافع الجسد تصبح تحت إمرة دوافع الروح .

الجوع والعطش دافعان جسديان فطريان مرتبطان بحاجة الجسد للحياة ، واستمرار أجهزة الجسم في أداء وظائفها ، ودوافع حب الارتقاء الروحي ونيل الأجر والتدرج في سلم القُرب من المولى عز وجل هي روحية خالصة يحققها الصيام الذي يتناقض ولو شكلياً مع دافعي الجوع والعطش ، ودوافع فطرية أخرى ، ولدى الصائم تتغلب دوافع الروح على دوافع الجسد ، وهذا الأصل في طبيعة النفس البشرية ، فدوافع الجسد تجر صاحبها إلى مرتبة "الحيوان" إن لم تتحكم بها دوافع الروح ، وفي رمضان يبدو هذا التفاعل واضحاً ، ويغدو الصائم مالكاً لزمام التحكم بدوافعه الجسدية، مقيداً لها بمحددات رغبته بتحقيق دوافعه الروحية ، التي تزرع في نفسه الرضا ، وتكسبه الأجر والمثوبة ، وتحقق له تقدماً في سلم التقرب من المولى عز  وجل .

ترتكز فلسفة الصيام على الأهتمام باحتياجات الروح ، وتغليبها على حاجات الجسد ، والانطلاق من سجن الجسد إلى التحليق في فضاءات الرقي الروحي الذي يحقق التوازن في باقي شهور السنة، وبالإتكاء على هذا الفهم فإن الصيام يمثل شوكة الميزان لأنه يحقق هذا التوازن والذي ينشده الجميع ، ويسعى إليه الكل، كما أن الصوم كنشاط رمضاني يعزز فينا القدرة على التحكم باشباع الحاجات الانسانية الفطرية ، فالامتناع عن المفطرات طوال النهار ليس عبثاً، ومع كونه تعبدا في المرتبة الأولى فهو تدريباً على التحكم باشباع دوافعنا الفطرية ، وفرصة لتهذيبها والسيطرة التامة عليها، ولذا يفرح الصائم بفطره لانه تغلب على نوازع النفس ، وألجم حاجاتها ، وتمكن من تطويع متطلبات الجسد ككيان مادي محسوس ، لخدمة الروح ككيان معنوي غير محسوس ، وهذا انجاز يستحق عليه أجراً مضاعفاً لا يقتصر على أجر الصوم فقط ، ولكن يتعداه الى مضاعفة أجور العبادات الأخرى في رمضان .

رمضان موسمٌ تكون النفس البشرية أقرب إلى طبيعتها الروحانية الملائكية ، وفيه الصيام الذي يركِّز على تزكية هذه الروح ، ولذا خصَّ الله هذه الشهر بما لم يخصّ به سواه من أشهر العام، وهو فرصة متكررة لتدريب النفس على الصبر ، والكف على العطاء ، والروح على السمو ، والقلب على الثبات على الطاعة ، وهو مدرسة تؤهلنا للانخراط في لجة الحياة متسلحين بالاستغناء عما في أيدي العباد ، والتعلق بما عند رب العباد.

رمضان بكل هذه المفاهيم مرحلة تحوّل سنوية مهمة في حياتنا ، وليس من العدل أن نمر فيها دون أن تترك أثراً إيجابياً في سلوكنا الحياتي، وستكون حياتنا أجمل إن سحبنا هذا التفاعل الرائع إلى باقي شهور السنة ، وتطبيق هذا التحكم الروحي على جميع مناشط حياتنا العامة ، وهذا حال أهل الصلاح والتقوى فهم يزنون أعمالهم بميزان الموافقة والمخالفة ، والأجر والوزر ، وهذا هو نموذج التحكم الروحي بالسلوك الجسدي .

رمضان كريم ، كل عام وأنتم إلى الله اقرب ، وعلى طاعته ومحبته أدوم .

الحجر الصحفي في زمن الحوثي