ولاية علي بن أبي طالب بين تزوير الشيعة والحقيقة التاريخية (14)

توفيق السامعي
السبت ، ٠٦ أغسطس ٢٠٢٢ الساعة ٠١:٤٨ مساءً

 

من الملفت تماماً أن أحد رواة حديث عرفة (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا..كتاب الله)، وحديث خم - بكل صيغه وألفاظه والنقص فيه أو الزيادة عليه أو التقديم والتأخير- هو نفسه زيد بن أرقم، وعليه فكيف تكون الروايات مضطربة إلى هذا الحد إلا أن يكون قد أدخل في الحديث ما ليس فيه في أزمنة متعددة، وأن النقل عنه لم يكن دقيقاً. وقد كان زيد بن أرقم من أصحاب علي وشهد معه صفين، صحيح أننا لا نقدح في عدالة وأمانة الصحابي الجليل، ولكن قد يعتري حديثه معه هذه الزيادة أو النقصان أو استدراك بعض الألفاظ فيه؛ لأنه ذكر للناس حديث خم وهم في آخر أيامه وقد شاخ، وهذا ندركه من خلال سياق الحادثة والحديث. ويقول يزيد بن حيان: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه، قال له حصين: لقد لقيتَ يا زيد خيرًا كثيرًا، رأيت رسول الله، وسمعت حديثه، وغزوت معه وصليت خلفه، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله. قال: يا ابن أخي، والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي عن رسول الله، فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا فلا تكلفونيه، ثم قال: قام رسول الله يومًا فينا خطيبًا بماء يُدعى خمًا بين مكة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: "أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به"، فحثَّ على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي". فقال له حصين: ومن أهل بيته؟ يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته مَنْ حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم( ). وفي هذه الرواية لم يذكر أبداً: "من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم والِي من والاه وعادي من عاداه"! وانظروا إلى قوله - رضي الله عنه-: "لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي عن رسول الله، فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا فلا تكلفونيه"، فهذه قرينة لا تغفل في البحث عند الباحثين عن اضطراب هذا الحديث أو الزيادة والنقص فيه. وكذلك قوله: " فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحثَّ على كتاب الله ورغب فيه"، فهذا يعني أنه لم ينقل كل ما سمعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذات الحديث وإنما اختصره وعطف عليه أهل بيته، ولا توجد أدنى إشارة لولاية علي فيه أو تفضيله على غيره. فقد سئل علي - رضي الله عنه- في معركة صفين عن مثل هذا، هل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم- له بشيء؟! فقال: لا. "فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من التابعين منهم الحارث بن سويد، وقيس بن عباد، وأبو جحيفة وهب بن عبدالله السوائي، ويزيد بن شريك، وأبو حسان الأجرد، وغيرهم أن كلاً منهم قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهده إلى الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ فإذا فيها العقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر، وأن المدينة حرم ما بين ثبيرة إلى ثور"( ). وفي رواية عند مسلم: سئل علي - رضي الله عنه- أخصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة، إلا ما كان في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوباً فيها: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثاً"( ).  وقد سيق نفس الرواية عن عمار بن ياسر؛ إذ قال قيس بن عباد: "قلت لعمار بن ياسر: أرأيت قتالكم مع علي رأياً رأيتموه؟ فإن الرأي يخطئ ويصيب، أو عهد عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس كافة. وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن عمار عن حذيفة في المنافقين"( ). لم يفهم علي هذا الحديث - كما تقول عنه الشيعة- أنه عهد بالولاية، كما أنه طيلة حياته منذ أن قال الرسول هذا الحديث فيه (إن صح صحة مطلقة كونه مناقضاً لحديث الرسول في عرفة) وحتى لحظة استشهاده، وبينهما جدالاته ورسالاته مع معاوية، لم يفهم على أنه عهد له بالولاية، ولا بالوصاية، وقد أثبتنا أن الوصاية أول من اخترعها هو عبدالله بن سبأ. ولو أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوصي له بعهد بصريح العبارة لفعل دون مواربة أو تشكيك أو اعتساف للأحاديث أو تأويلاً ولا غيره، ولو كان لعلي عهد بذلك لقاتل عليها بالسيف، ولفهم ذلك كل الصحابة بكل تسليم ودون معارضة، فمعارضتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عصيان له ونقص في إيمانهم، لكنه لم يقل، ولم يوصِ، ولم يعهد، ولم يعصه الصحابة، ولم يخالفوه. ونفهم من هذا أن علياً لم يكن معه أي عهد لا بالولاية ولا بشيء آخر، كما تقول الشيعة عنه، وكما يروي الإماميون من الحديث السابق في غدير خم. وهذا يصدقه قول علي عن أبي بكر - رضي الله عنهما-، "حَدَّثَنا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ بِمِصْرَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّيْرَفِيُّ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَهْدًا لَجَاهَدْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أَتْرُكِ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ يَرْقَى دَرَجَةً وَاحِدَةً مِنْ مِنْبَرِهِ"( ). ومع أن هذا الأثر برأي رجال الحديث ضعيف، لكن حديثَي وأثرَي علي وعمار في شأن عدم عهد الرسول يؤازران هذا الأثر ويقويانه من هذا الطريق. لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كنبي وقائد سياسي ثم قائد عسكري يحب أن يرفع من معنويات أصحابه، وكان يوزع فيهم المقولات كأوسمة يعتزون بها ويجبر خاطرهم بها وهم المضحون معه في سبيل دعوته، فكما قال تلك العبارة - إن صحت- في علي "من كنت مولاه فعلي مولاه"، فقد قال في أبي بكر أحاديث كثيرة "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام"، ولقبه الرسول بالصديق، وقال عن عمر: "لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ"، وقال عن عثمان: "ألَا أستحي مِن رجُلٍ تستحي منه الملائكةُ"، وقال عن الزبير: "إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوارِيًّا وإنَّ حَوارِيَّ الزُّبَيْرُ بنُ العَوّامِ"، وقال عن طلحة: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّه"، وقال عن عبدالرحمن بن عوف: "إن الذي يحنو عليكم بعدي هو الصادقُ البارُّ، اللهمَّ اسقِ عبدَ الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة"، وقال عن أبي عبيدة: "إنَّ لكل أُمَّة أمِينًا، وإنَّ أمِيننا -أيتُها الأمة- أبو عُبيدة بن الجَرَّاح"، وقال عن معاذ بن جبل: "أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل"، وقال عن خالد بن الوليد: "إن خالدا سيف من سيوف الله"، وهكذا وزع الرسول الأوسمة على أصحابه، فلماذا علي تحديداً تم المغالاة فيه دون الصحابة؟! ظلت الإمامة إلى اليوم تنظر التنظيرات الكثيرة حول موضوع الولاية وغدير خم، وتتخذه مدخلاً للحشود والتجييش للحروب، ويكررونها في كل زمان ومكان ومع أية أسرة منها تدعي الإمامة. والحوثيون اليوم يصرون على هذا الأمر، ويعلقون الشعارات التي تكفر المواطنين الذين يعارضون هذا الأمر، ومن أشهر اللافتات التي رفعوها في شوارع صنعاء تقول: "من ينكر ولاية علي فقد كفر بالله ورسوله"، كما ظلت الإمامة قديماً من أيام المتوكل إسماعيل، والحوثيون اليوم يحتفلون بهذه المناسبة ويتخذونها عيداً ومناسبة دينية. فقد كان أول من احتفل بها من الأئمة في اليمن هو المتوكل إسماعيل بن القاسم، الذي خُطِب في عهده في سنة 1085هـ بخطبة الرافضة، و"خطب خطيب صنعاء محمد بن إبراهيم السحولي بخطبة الرافضة يوم الغدير، ثامن عشر شهر الحجة يوم الجمعة، وحث الناس على الصيام فيه، وإظهار الشعار الذي للإمامية الإثنى عشرية، ولم يخطب أحد قبله من أهل مذهبه"( ).  وهذا بدر الدين الحوثي يقول في مقابلة صحفية لصحيفة الوسط عام 2004 "إن الاحتفال بيوم الغدير مصلحة دينية؛ لأن فيها إظهار لولاية علي بن أبي طالب، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جمع المسلمين في يوم الغدير وهو عائد من حجة الوداع بمكة وأعلن لهم ولاية علي بن أبي طالب"..

"وأما الجارودية أتباع أبي الجارود زياد بن المنذر، فهم قالوا بأن النص في علي جليٍّ موافقة للإمامية من الرافضة، ولكنه قال بإمامة زيد بن علي، والإمامية قالوا: ليس هو من الاثنى عشر المعينين عندهم، ووافقهم في رفض الصحابة"( ). 

وبعض فرق الشيعة الإثني عشرية تكفر علياً - رضي الله عنه- لأنه سكت عن المطالبة بالولاية؛ وهي الفرقة الكاملية (أصحاب أبي كامل)( ). "ولو كانت نظرية النص والتعيين ثابتة ومعروفة لدى المسلمين لم يكن يجوز للإمام أن يدفع الثوار أو ينتظر كلمة المهاجرين والأنصار، كما لم يكن يجوز له أن يقول: "أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً"، ولم يكن يجوز له أن يعرض الخلافة على طلحة والزبير، ولم يكن بحاجة لينتظر بيعة المسلمين"( ). 

 

علي لم يستخدم أي نص له في الولاية ومن خلال روايات البيعة كلها بحق علي نجد أنه لم يذكر فيها أية أحقية له بالخلافة على أساس القرابة أو على أساس نصوص قرآنية أو حديثية مؤولة، كما سنجدها في فترة متأخرة عند الشيعة، وعند أدعياء الانتساب إليه، إلا ما صرح به ابن خلدون في كتابه العبر إذ قال إنه من بيت النبي وكان الأحق بالولاية، ومعلوم بعض الدس عن ابن خلدون لم يذكرها الطبري ولا غيره، وابن خلدون متأخر عن الطبري بحوالي خمسمائة عام، وخلال هذه المدة ظهرت الشيعة كعصبية وطائفة ونظرية سياسية أدخلت الكثير من الجمل المدسوسة والنصوص بما لم تكن عند الأولين لا يستبعد أن يأخذ منها ابن خلدون، رغم أنه آخر معظم هذه القصة عن الطبري إلا أنه كان يزيد فيها بجمل مدسوسة من عنده لا أصل لها عند الطبري.

وقد خاطب علي طلحة والزبير بالقول: "والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتوني عليها، فلما أفضت إلي نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استن النبي صلى الله عليه وسلم فاقتديته.."( ). 

لما كتب علي كتاباً إلى معاوية لم يقل له أنا الأحق بالخلافة لأني ابن عم رسول الله وصهره، ولم يقل إن الرسول أوصى لي بالولاية، ولم يتأول الآيات، ولم يعتسف النصوص ليقول إنها تأييد إلهي لخلافته وولايته، بل قال له: "إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً؛ فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى"( ).

الحجر الصحفي في زمن الحوثي