جرائم الاغتيالات .. بين التشفي والأنين

د. محمد شداد
الجمعة ، ٢٩ اكتوبر ٢٠٢١ الساعة ٠٥:٢١ مساءً

مرت اليمن بموجة حادة من الاغتيالات والتصفيات السياسة بعد ثورتي 26 من سبتمبر و 14 من أكتوبر حيث حصدت القامات الوطنية، والاجتماعية، والعلمية، وجردت المجتمع من مراجعه، ورموز عصره بدءً بالزبيري ومروراً بالرعيني وهادي عيسى وعبدالرقيب عبدالوهاب وصولاً إلى فيصل عبداللطيف؛ علي عنتر؛ سالم ربيع علي؛ وصالح مصلح٬ إلى فاجعة اغتيال الشهيد الحمدي وسالمين.

بعد فاجعة واغتيال الحمدي الشهيرة بالرصاص النذل، والطعنات الغادرة من قبل فرق الحشاشين هوامير العمالة والعصبية والتمذهب والفساد خدمة لأسيادهم أعداء بناء الدولة اليمنية الحديثة وترسيخ أقدام الجمهورية، لم يعترض عليها، أي على جرائم فرق الحشاشين، أو يثور ضدها أحد؛ شكَّلت مادة دسمة لتصفية الحسابات؛ أُسقطت المنابر على إثرها، وسُدت الحناجر، وكُسرت الأقلام مرت حادثة الاغتيال دون ثورةٍ أو حساب فأصابت لعنتهم جموع الناس في لواحقها دون استثناء.

وعندما أُريد استعادة مشروع الحمدي واستلهام روحه الثورية عن طريق تصحيح سلمي لمسار الثورة والجمهورية قام به الشباب القوميون في العام 1979م  كان على رأسهم الاستاد عيسى محمد  سيف والعقيد محسن فلاح، وسالم السقاف، وعلي السنباني وعبدالسلام محمد مقبل إلا أنهم خُذلوا  كانت الكتلة "العسقبلية" الصلبة التي قتلت الحمدي في مواجهتهم فشل المخطط فأُعملت الخناجر في رقابهم قتلاً وتنكيل حصدت من قيادة الصف الأول للحزب الناصري ما يربوا على ستين (60) شاب من أنضج الشباب وأورعهم في تلك الحقبة تغنى بفعلهم البردوني في كتابه اليمن الجمهوري قائلاً " غير ان فشل الانقلاب دل على أمثولة أولئك الفتيان الذين حاكموا محاكميهم وخرجوا إلى ساحات الإعدام وكأنهم خارجين إلى حفلة عرس بهيج" لم يكتب البردوني الثائر بطبعه والشاعر الفذ والمفكر الوطني العميق ذلك من فراغ كتب رسالته كي تصل إلى فرقة "الحشاشيين" للاغتيالات  وتصفية الوطن من قادته ورموزه علها تتوقف عن الإجرام بحق الوطن..

هدأت بعدها الاغتيالات نسبياً غير أن الفكرة ظلت قائمة حتى أُعيد تحقيق الوحدة اليمنية دفع بها القدر قدماً على أمل لم الشمل ورأب الصدع ومداواة جراح ماضي الحروب، ونزع فتيل النزاعات البينية على كراسي السلطة، وتوقف الحروب وملاحقة أصحاب الأيديولوجيات الفكرية، والسياسية التي تحمل فكرة نواة بناء الدولة بغية تحولها من يد أخشاب القبيلة وصخور المجتمع الثيوقراطية الجامدة إلى من هم أهلاً لها وأقدر بصرف النظر عن المذهب والطائفة والجغرافيا إلى أن برزت عربة "الهيلوكس" على السطح وبدأت تصول في شوارع صنعاء وتجول ومن وراءها الصخور الصلبة أعداء الدولة، والوحدة، والأمن، والاستقرار، فما انفكت تفتك بأعضاء الحزب الاشتراكي الذين قدموا ضيوفاً على العاصمة صنعاء كشركاء للوحدة وبناء الدولة، فكانت ضيافتهم كضيافة الحمدي في غدائه الأخير غدراً، وفتكاً استمراراً لإجهاض مشروع الوحدة والدولة الوطنية ونهباً لها، وتوقيفاً لمسار الثورة وتحقيق أهدافها المقصية.

احتدم الصراع حتى اندلعت حرب صيف 94م جرف سيلها نصف أحلام الجماهير وسحق طغيان النصر والتفرد بالسلطة وغياب الشريك الفاعل "الحزب الاشتراكي" الوازن للعملية السياسية، النصف الثاني المتبقي من تطلعات بناء الدولة اليمنية الحديثة؛ مرةً أخرى لم يعترض أحد من باقي التيارات على ما جرى ويجري من تغلب وطغيان، بل كان التشفي وأحلام الحلول محلة الحزب الاشتراكي شريك الوحدة بائنة.  وأنَّ لأفاعي السلطة والسياسة أن تهدأ وأن ترعوي؛ اختُزِلت الدولة والحزبية والسياسة والعسكرة في ثلاثة، هواميرها وأشياعهم ، مارست الدور التراجيدي بذات الأليات التقليدية والفكر العقيم؛ مارسوا سلطانهم وعبثهم اللامحدود، إلى أن اندلعت ثورة الشباب التصحيحية 2011م والتي يعتبرها البعض سبب الشقاء الأخير، على اعتبار أن ظلم اليمني لإخوانه من اليمنيين كان أهون من دعاة الحق الإلهي على أقل تقدير أنه لم يدعُ إلى التأله وطغيان الحق التميُز اللاهوتي العرقي ,احقيته الحرية في الحكم، ولم يقل أنا خيراً منكم خُلِقتم من طين وخلقت أنا من جحيم النار.

 ما تبين لاحقاً هو أن الإشكالية ذاتها كانت عميقة حيث امتزجت سموم الأفاعي ببعضها فالتحم الحراك السلالي بالحقد الطائفي القبلي في بنية "الجملكيه" حافظوا على الصخرة والمعبد، المذهب والمعتقد، احتموا بهم في مواجهة معارضيهم، حافظوا على خرافات الهادوية، أثاروا العصبية وتمسكوا بمبدأ الغلبة والقوة، وسهلوا طرق تكرار الجريمة، أمسكوا بخطام البعير حتى عادت الإمامة لقيادته وركوبه، تجدد الحقد وعادت الاغتيالات تحصد كبار ضباط الثورة والجمهورية المخلصين والمعارضين السياسيين في شوارع العاصمة صنعاء وخارجها فتكاً  بكبار الحزبيين والسياسيين من كل اتجاه.  بل من النوادر المبكية والمثيرة للسخرية أن  كبار ضباط الأمن السياسي الذين كان ذكرهم عند الناس يخيف، كان حوفهم حاضراً نتيجة للتربص بهم وبتحركاتهم بوشايات من داخل دوائر الأمن السرية المغلقة. كارثة لم تستثنِ أحد وصار الكل لها ضحايا.  تشتت ذهنية الناس والتهت عن تلك الاغتيالات ولم يصرخ من بشاعتها أحد بل اعتبرها غالبية المراقبين اعتيادية، كونها تأتي في سياق الصراع على السلطة وتشقق بنية الدولة، وبروز انياب الحقد والثأر السياسي اللعين، امتد نارها إلى عدن بعد تحريرها وانسحاب عساكر الحرس من كل الجبهات المحيطة بعدن أبين وترك حملة الزنان الغبراء ضحية في شوارعها عشاءً لثوارها.

تضخمت أفعى الاغتيالات في عدن واستمرت حتى التحمت بقدرات استخباراتية أجنبية وتقنية تكتيكية عالية، تختطف وتقتل خطباء المساجد والمحسوبين على حزب الإصلاح كان التعامي وغض طرف الأطراف السياسية "المتشاكسة" أيضاً فيها طاغياً رغم بشاعتها وظلمها وانتهاكها لكل القيم الإنسانية والأعراف الدينة.

اغتيل مهندس اللقاء المشرك المناضل الكبير جار الله عمر وسُكت عن اغتيال القيادي في حزب الإصلاح صادق الحيدري في تعز والشاب المدني المسالم عمر دوكم ومروراً باغتيال القائد الجمهوري عدنان الحمادي حدثت حالات كثيرة حتى وصلت إلى آخر حلقة من حلقاتها المؤلمة اغتيال صديق المساكين ضياء الحق الأهدل الذي هز اغتياله معظم المكونات السياسية الوطنية والقلوب السليمة، وآلمت مشاعر الجميع لأنه مدني خالص وصديق الفقراء الكل بعدها أيقن بأن السكوت عن طوفان جرائم الاغتيالات جريمة، لأنها جريمة عابرة للزمان والمكان، ولن يقف عند حد وسيكتوي بنارها  كل رواد الصف الجمهوري والباحثين عن الحرية والديموقراطية وعن وطن حر يعيش على أرضه الجميع سواسية دون تمييز.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي