حرب الحوثي ضد اليمنيين: إبادة جسدية وثقافية

همدان العليي
الجمعة ، ١٥ اكتوبر ٢٠٢١ الساعة ٠٨:٥١ مساءً

البشر على اختلافهم ومن أجل تحقيق المصلحة والحفاظ على المجتمعات يعملون على تطوير أدوات مواجهة الجرائم والانتهاكات التي تمارس ضد المدنيين من خلال سن القوانين وإبرام الاتفاقيات بين الدول والسعي إلى ملاحقة المجرمين ومعاقبتهم، باستثناء المنتهكين للحقوق والقيم والمواثيق الدولية فإنهم يعملون على تطوير أدوات وأساليب ارتكاب الجريمة وإخفائها، وتضليل من يتتبعها بهدف الإفلات من العقاب.

 

وكغيرها من الجماعات التي مارست الجرائم، استفادت جماعة الحوثي من التجارب التي مرت خلال العقود والعصور الماضية، واستطاعت ابتكار أساليب جديدة نجحت -إلى حد كبير- في تضليل اليمنيين والمجتمع الدولي في سبيل تحقيق طموحها التاريخي المعروف والمتمثل بحكم اليمنيين وامتلاك رقابهم.

 

ولأن التمييز العنصري سلوك وثقافة مجرمَّة دوليًّا في عصرنا الحديث -على الأقل نظريًّا- فقد عملت الحوثية على إخفاء المنطلقات العنصرية والعرقية التي تستند عليها في حربها على اليمنيين، فهي لا تقول صراحة إنها تقاتل لأن من ينتمون إلى سلالة يحيى الرسي -التي جاءت من خارج اليمن- أحق بحكم اليمنيين ولو بالقوة، كما كان أجدادهم يقولون ويفعلون، إلا في حدود ضيقة وغير مباشرة، لكنها تستعير شعارات سياسية ووطنية وقومية ودينية مختلفة للاختباء خلفها، مثل: القدس، والاستكبار العالمي، والفساد، ومحاربة الفقر، وغيرها من المفاهيم التي تستخدمها، والشعارات التي ترفعها لتضلل بها المجتمع اليمني والمتابع الدولي، وتتخذ منها وسيلة للسيطرة على الحكم.

 

تتردد كثير من النخب اليمنية في الإفصاح عن التعريف الدقيق للجذور الفكرية والعقائدية العنصرية لجماعة الحوثي؛ والقصد هنا هو التعريف الذي يكشف عن الجانب العرقي المغلف بالطائفية، ويشير بوضوح إلى الدوافع والمنطلقات التي تجعل هذه الجماعة السلالية تمارس جرائمها المختلفة في اليمن.

 

هذا التردد ناتج عن اعتقاد بعض اليمنيين أن عدم الإشارة إلى الأبعاد العرقية المغلفة بالدين، كفيل بإبقاء الخلاف في إطاره الوطني بما يعزز المواطنة المتساوية، ويسهم في ترسيخ قيم الدولة التي ترعى كل اليمنيين وتساوي بينهم. وبالتأكيد هذا مقصد نبيل، لكن الحقيقة أننا بحاجة إلى إظهار جذور المشكلة اليمنية بشكل واضح ودقيق كي ننجح في معالجتها عن طريق إقامة دولة المواطنة المتساوية بين اليمنيين كلهم بلا استثناء أي عرق، أو مذهب، أو دين.

 

ولو عقدت مقارنة بين دوافع الحوثيين التي تجعلهم يتركون منازلهم ويرفعون السلاح في وجوه اليمنيين، وبين الدوافع التي جعلت اليمنيين يقفون ضد هذه الجماعة دفاعًا عن وجودهم؛ فسنجد أن اليمنيين بمختلف تكويناتهم الدينية والسياسية والمجتمعية لا يواجهون جماعة الحوثي لأنهم يعتقدون أنهم أفضل من سلالة الرسي التي تحدد الحكم في ما يسمى بـ “البطنين”، بل لأنهم ينشدون دولة عادلة ليست قائمة على التمييز العنصري بين فئات المجتمع. وفي المقابل سنجد الحوثيين يقاتلون الإرادة اليمنية الجامعة بدافع اعتقادهم بالانتماء إلى العرق المقدس، ولأنهم كذلك، فقد قرر مذهبهم أن يكونوا هم الحكام وغيرهم مجرد رعايا وعبيد، وهذا ما يرفضه الناس في اليمن.

 

وتكثيفًا لما سبق، يمارس الحوثيون جرائمهم ضد اليمنيين من منطلقات عرقية مغلفة بالدين، ويواجه اليمنيون هذا الإرهاب ضدهم بالبحث عن المواطنة المتساوية التي تستوعب كل اليمنيين دون استثناء عرق أو مذهب أو دين. ويمكن للمهتم أن يفتش في أدبيات وكتب ومؤلفات ونظريات جماعة الحوثي للوقوف على ما أشرنا إليه، فسيجد أن الفكرة الحوثية قائمة على أساس تمكين سلالة -من يدعون أنهم ينتسبون إلى سلالة الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام)- من حكم رقاب وأموال ومصائر اليمنيين.

 

ومنذ العام 897م – 284هـ حتى اليوم، وفي سبيل حكم اليمن والسيطرة على مقدراته، نفذ أدعياء الحق الإلهي في الحكم عددًا كبيرًا من الجرائم التي تصل إلى مستوى الإبادة الجسدية الجماعية، كما حدث لجماعة المطرفية، أو ما يحصل لمنطقة العبدية وبقية القبائل المأربية اليوم، فضلًا عن الإبادة الجسدية غير المنظمة أو الجزئية التي تنفذها ميليشيا الحوثي ضد اليمنيين الرافضين لنظريتها العنصرية منذ العام 2004.

 

وخلال الفترة نفسها، وبالتوازي مع قتل وتهجير اليمنيين، نفذت السلالة الرسية عمليات ممنهجة في سبيل تحقيق هدف استراتيجي قديم، وهو محو هوية اليمنيين واجتثاث تاريخهم الثقافي بما يساعدها على تنصيب ثقافة أخرى تضمن لهم التمكين والحكم، وجباية الأموال، والتحكم بالقبائل والسيطرة عليها؛ لأن هذه الوسيلة ستقلل من مقاومة اليمنيين الذين يرفضون هيمنة السلالة منذ اليوم الأول الذي وصلت فيه إلى اليمن.

 

اليوم، لا يمارس الحوثيون الإبادة بمفهومها التقليدي المتعارف عليه، أي: جمع الناس في مكان ما وذبحهم، أو رميهم بالرصاص الحي، أو حرقهم، أو دفنهم وهم أحياء في مقابر جماعية كما حدث في القرون الماضية، لكنهم ينفذون الإبادة السياسية، والإبادة الجسدية، والإبادة الثقافية التي يعدُّها كثير من خبراء القانون شكلًا من أشكال الإبادة الجماعية.

 

أما الإبادة السياسية فتتجسد في قيام الحوثيين باجتثاث الأحزاب السياسية برمتها بمجرد ما يسيطرون على أي منطقة، وهذا ما حدث لكل الأحزاب اليمنية، وعلى رأسها حزبا المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح، فقد تم تصفية بعض قياداتهما، وتهجير بعضها خلال السنوات القليلة الماضية.

 

وعندما نقول الإبادة الجسدية، فما يتعرض له اليمنيون من قتل وتهجير بدوافع عرقية وطائفية في صعدة وعمران وتعز وعدن ومأرب والبيضاء وبقية المحافظات اليمني، يعدُّ إبادة جسدية جماعية وإن بدت في نظر بعض المتابعين جزئية.

 

إن ما تتعرض له قبائل مأرب على وجه التحديد يمكن وصفه بالإبادة الجسدية الجماعية، وآلاف اليمنيين وهم من السكان الأصليين يتعرضون للإبادة بالصواريخ البالستية والطائرات المسيرة المفخخة والحصار المطبق.

 

ومن شواهد ذلك أن حوالي 35 ألف يمني يسكنون مديرية العبدية في مأرب أغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن يتعرضون لحصار حوثي منذ حوالي شهر، ويمنع عنهم الغذاء والدواء والأكسيجين المنقذ للحياة، ويتم قصفهم بالصواريخ البالستية، وعندما يتم نقل المصابين جراء هذا القصف إلى المستوصف الوحيد في المديرية، يقوم الحوثيون بقصفه للإجهاز على الجرحى وإبادتهم، وهو ما حدث في13 أكتوبر الجاري.

 

تترك حركة الحوثي السلالية المدن، وتتوجه إلى القرى التي تتواجد فيها أعرق القبائل اليمنية للسيطرة عليها، وعندما تنجح في السيطرة على قبيلة دون قتال تهجر من يعارضها فيها، وتبدأ بنشر فكرها بالقوة في المساجد وبين طلاب المدارس، أما القبيلة التي تدافع عن نفسها فتستهدف أهلها بالقتل والتهجير، وهذا يعني “إبادة جسدية” للسكان الأصليين الذين رفضوا اعتناق معتقدات الحوثيين. وعندما ينتهون من قتل الآباء أو تهجيرهم، يلتفتون إلى الأبناء فيخضعونهم لدورات خاصة بهم لنشر فكرهم الحوثي العنصري ضد معتقد آبائهم، وهذا ما يوصف بـ “الإبادة الثقافية”.

 

أدرك خبراء القانون أن تدمير جماعة أو شعب يمكن أن يتم من خلال استهداف ثقافته بشكل ممنهج لينتهي الأمر بإنهاء روحه ثم وجوده، “وبالتالي لا يمكن حصر الإبادة الجماعية على مظاهرها الجسدية وحسب”(1)، بل يمكن التأكيد على العلاقة المباشرة بين العنفين الثقافي والجسدي، واشتهرت في هذا السياق مقولة للشاعر الألماني الشهير هاينريش هاينه1812 وهي: “أينما تحرق الكتب، فسينتهي الأمر بحرق البشر أيضًا”(2)؛ وهذا ما جعل فقهاء القانون يعدون مفهوم الإبادة الجماعية الحالي ناقصًا، بل ويطالبون بسن تشريعات خاصة بالإبادة الثقافية.

 

وعندما نتحدَّث عن ثقافة أي مجتمع أو جماعة، فنحن لا نقصد مجرد الأفكار، فالثقافة هنا هي السلوك والطبائع والوجوه المميزة والبارزة لمقومات الجماعة أو الأمة التي تميز بها عن غيرها بما تقوم به من العقائد، والقيم، واللغة، والمبادئ، والسلوك والمقدسات، والقوانين، والتجارب، والمعارف، والمعتقدات، والعادات والتقاليد، والقيم، وحتى القوانين، وضوابط ومحددات أي جماعة أو شعب.

 

وقد عرفت موسوعة الدراسات السوداء “Black Studies”(3) الإبادة الثقافية، بكونها إفناء متعمدًا وممنهجًا لثقافة شعب ما، من قبل مجموعة أخرى، تتم هذه العملية عبر الإرهاب الجسدي والعنف والتعذيب النفسي والإغواء.

 

أما أستاذ التاريخ في جامعة ويست تشيستر في بنسلفانيا لورانس ديفيدسون في كتابه الإبادة الثقافية، فقد عرف المصطلح بأنه: “تعمّد مجتمع ما، قاصدًا إلى إضعاف وتدمير القيم والممارسات الثقافية العائدة إلى مجموعات لا تنتمي إليه. ويمكن أن يكون هدف الإبادة الثقافية هو إضعاف مجموعة العدو، أو يكون إهلاكًا حاسمًا لثقافة العدو، باعتبار ذلك جزءًا من برنامج نسف المقاومة الفاعلة للاحتلال أو السيطرة”(4).

 

وفصّل الكاتب الأمريكي ديفيد نرسسيان في تعريفه بعض أشكال الإبادة الثقافية، مؤكدًا أنها “تمتد أكثر من تلك الهجمات على عناصر المجموعة المادية أو البيولوجية لتشمل القضاء على كل مؤسساتها بنطاق واسع. ويتم ذلك بطرق متنوِّعة، غالبًا ما تتضمن إلغاء لغة مجموعة، أو من خلال القيود المفروضة على ممارساتها لعاداتها التقليدية، ومن خلال تدمير المؤسسات الدينية، أو اضطهاد رجال الدين، أو الهجمات على الأكاديميين والمثقفين. إن عناصر الإبادة الثقافية قد تتجلَّى عندما يتم تقييد الأنشطة الفنية والأدبية، أو من خلال تدمير الكنوز الوطنية، والمكتبات، والمحفوظات، والمتاحف، والقطع الأثرية أو مصادرتها”(5).

 

ولو طبقنا ما ذكر في توصيف الإبادة الجسدية والثقافية فسنجد أن ما يحدث في اليمن ليس مجرد حرب، وإنما هي عملية اجتثاث مجموعة من البشر، واستزراع آخرين يحملون فكرًا مغايرًا، وأنه يتم استنادًا إلى اعتقاد بتميز عرق عن غيره من اليمنيين.

 

في حقيقة الأمر، لجأ كثير من خبراء القانون الدولي إلى التعامل مع المعايير والشروط المستخدمة في وصف جريمة الإبادة الجسدية، وذلك لتحديد ما إذا كان الذي تعرض له أي مجتمع يعدُّ إبادة ثقافية أم لا، بالرغم أن إبادة ثقافة أي مجتمع يعني أنه أصبح بلا وجود.

 

ولكي توصف جرائم الحوثيين بالإبادة الثقافية، يجب أن تتوفر عدد من الأركان التي استخدمت في تحديد وقوع الإبادة الجماعية الجسدية، وهي:

 

1- الركن المادي: يتمثل هذا في القيام أو الامتناع بأفعال/عن لأفعال تهدد المصالح الجوهرية، لفئة معينة دينية، أو عرقية، أو سياسية معينة، على أن يكون القصد من هذه الأعمال القضاء على معتقدات أو ثقافة جماعة أو أقلية معينة بشكل جزئي أو كلي، وسواء نجحوا في ذلك أم لا، ويجب أن تشكل هذه الأفعال أثرًا ملموسًا يصيب المعتقدات الثقافية أو الفكرية لهذه الجماعة. ويتوجب لقيام جريمة الإبادة الثقافية أن تكون الجريمة موجهة ضد جماعة لتغيير هويتها وثقافتها.

 

ومن أمثلة هذه الممارسات التي تعدُّ جريمة إبادة ثقافية في اليمن تسخير العملية التعليمية الأساسية والثانوية والجامعية والمهنية لتغيير هوية وثقافية اليمنيين دون رضا أولياء الأمور والطلاب أنفسهم، وتجنيد الأطفال بهدف صياغة أفكارهم ومعتقداتهم، واستغلال كافة وسائل الإعلام لنشر فكرهم الذي لا يرتضيه اليمنيون، والإلزام بما يسمى بالدورات الثقافية التي تقيمها للموظفين قسرًا، والتهجير، وتفجير المنازل، والتجويع بهدف تركيع المواطنين وتغيير ثقافتهم، وتغيير أسماء الشوارع والقاعات والمؤسسات، ومصادرة الكتب، وملاحقة أصحاب المعتقدات المخالفة، وغيرها من الممارسات التي يصعب حصرها.

 

2- الركن المعنوي: يتمثل في توافر القصد العام، وهو العلم بأركان الجريمة وإرادة ارتكابها، ويتطلب أيضًا إلى جانبه القصد الخاص النية الإجرامية البعيدة، غير أنه لا معنى لوجود القصد الخاص دون القصد العام، وعلى هذا الأساس فإن الركن المعنوي لجريمة الإبادة الثقافية، يقوم على القصد الجنائي العام، وهو قصد ارتكاب الجريمة بدافع سياسي أو ديني أو عنصري، والقصد الخاص هو نية إلحاق ضرر جسيم بمعتقدات الجماعة الفكرية أو الثقافية أو محوها بصورة نهائية. (6) أي: نيّة المتهم في ارتكاب جريمة المحو الثقافي.

 

ويمكن إدراك هذا الركن في إعلان الحوثي نشر ما يصفونه بـ “الهوية الإيمانية”، و”الثقافة القرآنية”، و”الراية الإيمانية” وهي مشاريع فكرية هدفها اجتثاث هوية اليمنيين التاريخية، وإلغاء التنوع العقائدي، وعلى رأسها الفكر السني الذي يمثل الأغلبية في اليمن. مقابل ذلك نشر معتقدات الجماعة التي تجعل من حكم السلالة الرسية شرطًا أساسيًا من شروط الإسلام والوطنية، ومن يخالف ذلك فهو كافر أو ملحد، أو على أقل تقدير خائن، أو عميل، أو فاسد، وكل هذه تهم تعطي الحوثيين غطاء لإبادة كل من يتم وصفهم بها، سواء كان شخصًا، أم عائلة، أم قبيلة، أم حزبًا سياسيًا.

 

تقوم جماعة الحوثي بتبني خططًا ومشاريع معلنة لنشر هذه الأفكار في الأوساط المجتمعية، وتسخر إمكانياتها لتحقيق ذلك بالترهيب والترغيب، وبالتالي فإن الركن المعنوي متوفر في جريمة الإبادة الثقافية المرتكبة من قبل جماعة الحوثي؛ لأن هذه الجماعة قيادة وأفراد لديها القصد في تغيير هوية اليمنيين واجتثاث ثقافتهم، ولديها العلم بجميع مراحل جرائم الإبادة والنتائج المترتبة عن هذه الجرائم.

 

3- الركن الشرعي: يتمثل في كون الفعل مجرّمًا في القانون.

 

محليًّا، لا يمكن معاقبة أي مجرم إلا بقانون وفق مبدأ لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص أو بقانون، لكن الأمر يختلف في القانون الدولي، فمعظم الأفعال المصنفة جريمة إبادة ثقافية، تجد أصلها في الأعراف الدولية(7).

 

وفي الوضع اليمني، كثير من الجرائم التي يمارسها الحوثيون بغية محو هوية اليمنيين يعاقب عليها القانون المحلي، أما على المستوى الدولي، فقد تعامل القانون الدولي الإنساني مع العديد من هذه الجرائم، ويمكن اعتبار اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري1969، واتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية1954م، مداخل قانونية للتعامل مع هذا النوع من الجرائم الحوثية المرتكبة في اليمن.

 

4- الركن الدولي: يتمثل في طبيعة الحقوق المعتدى عليها، فمعظم هذه الحقوق أصبحت من صميم اهتمام القانون الدولي الذي لا يشترط أن يكون الجاني والمجني عليه ينتمون إلى دول مختلفة، بل يمكن أن يكونوا من دولة واحدة(8). فعلى سبيل المثال: الإبادة الجماعية التي تعرضت لها قبيلة التوتسي على يد قبيلة الهوتو في جمهورية رواندا، والتي بسببها تأسست المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا من قبل مجلس الأمن الدولي(9). وبالتالي، فإن الركن الدولي حاضر في جريمة الإبادة الثقافية التي يتعرض لها اليمنيون على يد جماعة الحوثي المدعومة من إيران.

 

قد يقول بعض المتابعين إن الحوثيين لا يختلفون عن بقية اليمنيين من حيث اللغة والدين وكثير من التفاصيل الثقافية، وهذا صحيح، لكن هذا لا ينفي حقيقة أنهم يمارسون الجرائم التي تصل إلى مستوى الإبادة الثقافية بدوافع جذورها عرقية غلفوها بطابعمذهبي.

 

ففي روندا، لم تتعامل المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا (ICTR) مع قبيلة التوتسي على أنها جماعة إثنية مختلفة عن قبيلة الهوتو؛ لأن كليهما تشتركان في الثقافة واللغة د(10)، وهذا ما عقّد من مهام المحكمة، فقد وجدوا صعوبة في التفريق بين التوتسي والهوتو، فمن الناحية التاريخية لا يوجد تمييز بين الهوتو والتوتسي على مستوى الجماعات بل كأفراد؛ بمعنى أن الفوارق بين القبيلتين لم تكن على أسس إثنية أو جينالوجية (وراثية)، وكانت عملية تحديد انتماء الشخص إلى أي القبيلتين مرنًا ويعتمد على غنى الشخص أو فقره(11).

 

وبناء على ذلك، وضعت المحكمة الجنائية الدولية معيارًا خاصًا بها أسهم في تحديد انتماء الأشخاص المتورطين في الجرائم من خلال القول إن: “قبائل التوتسي كانوا يشكلون جماعة اثنية مختلفة في أذهان مرتكبي الجريمة (قبيلة الهوتو)”(12). وبهذه الطريقة أكدت أن الهويات الجماعية، ومنها الاثنية، هي هويات متخيلة، أساسها أفكار سائدة في المخيال الاجتماعي المهيمن في بيئة اجتماعية معينة. فالتمييز بين الجماعات يستند بصورة كاملة على مشاعر عرضية أو مؤقتة، وليس على وقائع اجتماعية أو طبيعية موجودة وجودًا موضوعيًّا(13).

 

في واقع الأمر، تسببت الحرب في روندا بمقتل مئات الآلاف خلال أعمال الإبادة الجماعية التي وقعت بين أبريل/نيسان ويونيو/حزيران1994، وكان أغلب الضحايا من قبائل التوتسي، إضافة إلى المعتدلين من أبناء قبائل الهوتو الذين عارضوا سياسة الإبادة الجماعية التي نفذتها قبائلهم ضد أبناء قبائل التوتسي، وهذا يشير إلى أن المحكمة الدولية تعاملت مع الجرائم المرتكبة في جمهورية روندا باعتبارها إبادة جماعية نفذتها قيادات قبائل الهوتو ضد قبائل التوتسي، إضافة إلى شخصيات قبلية وعسكرية من الهوتو نفسها كانت تعارض سياسة قبائل الهوتو الإجرامية.

 

أما في اليمن، فالسلالة التي أشعلت الحرب وتسببت بحدوث أكبر أزمة إنسانية معاصرة، تصرُّ على تمييز نفسها عرقيًّا عن بقية اليمنيين، فهي ترى نفسها عرقًا مختلفًا ومميزًا، وهذا التميز يستتبعه استحقاق ديني، وسياسي، واقتصادي، وثقافي، واجتماعي، تعمل على أخذه من اليمنيين بقوة السلاح؛ وبالتالي، لا تحتاج المحاكم الدولية إلى أن تبذل جهدًا كي تحدد المسؤولين عن جرائم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها اليمنيون منذ فترة طويلة.

 

مراجع وهوامش:

 

1- مقالة لديفيد نرسسيان، إعادة التفكير في الإبادة الجماعية الثقافية بموجب القانون الدولي.

 

2- “هولوكوست الكتب”..عندما أحرقت أعمال أشهر الكتاب الألمان، مارك لوبكه/ ابتسام فوزي، موقع ألمانيا بالعربية DW) عربية)، نشر بتاريخ:10 مايو 2013.

 

3- “موسوعة الدراسات السوداء”: هي المصدر المرجعي الرئيسي للبحث المبتكر حول تجربة السود في أمريكا. تم تطوير مفهوم هذه الموسوعة من مجلة الدراسات السوداء (SAGE) الأمريكية وتحتوي على تحليل كامل للقضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتاريخية والأدبية والفلسفية المتعلقة بالأمريكيين من أصل أفريقي. وتعرض الموسوعة أكثر من مجرد سرد للثقافة السوداء أو السود التي بدأت من الاحتجاجات في كلية ولاية سان فرانسيسكو في عام1967 والتي أدت إلى انشاء قسم خاص يمنح الشهادة الجامعية حول دراسات السود.

 

4- الإبادة الثقافية، لورانس ديفيدسون، ترجمة: منار إبراهيم الشهابي، العبيكان للنشر، ص26.

 

5- إعادة التفكير في الإبادة الجماعية الثقافية بموجب القانون الدولي، مرجع سابق.

 

6- دراسة: النظام القانوني الدولي لجريمة الإبادة الثقافية- أقلية الأيغور أنموذجًا، عطية أحمد عطية السويح، رئيس قسم القانون الدولي في كلية القانون بجامعة الجفرة –ليبيا. نشرت في مجلة القانون الدولي للدراسات البحثية، العدد الرابع –يوليو 2020. تصدر عن المركز العربي الديمقراطي للدراسات الاستراتيجية، الاقتصادية والسياسية –برلين- ألمانيا.

 

7- النظام القانوني الدولي لجريمة الإبادة الثقافية- أقلية الأيغور أنموذجًا، عطية أحمد عطية السويح، مرجع سابق. نقلا عن علوي علي أحمد الشارفي، المسؤولية الدولية عن الجريمة الدولية، للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، الطبعة الأولى، 2019، 49،157.

 

8- النظام القانوني الدولي لجريمة الإبادة الثقافية- أقلية الأيغور أنموذجا، عطية أحمد عطية السويح، مرجع سابق. نقلًا عن علي عبدالقادر القهوجي، القانون الدولي الجنائي،124.

 

9- المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن أعمال الإبادة الجماعية والانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي التي ارتكبت في رواند أو المواطنين الروانديين المسؤولين عن أعمال الإبادة الجماعية وغيرها من الانتهاكات المرتكبة في أراضي الدول المجاورة بين1 كانون الثاني / يناير1994 و31 كانون الأول / ديسمبر1994.

 

10- خلصت المحكمة إلى أن الاستعمار البلجيكي أقر في بداية الثلاثينات من القرن الماضي تقسيما دائمًا في رواندا قائمًا على تصنيف السكان إلى مجموعات إثنية ثلاث هي الهوتو والتوتسي والتاواسي. وقد منحت كل شخص بطاقة شخصية محددًا فيها الانتماء الإثني له ليس له سند دليل جيني أو وراثي.

 

11- جريمة الإبادة الجماعية في القضاء الجنائي الدولي، الدكتور محمد خليل مرسي، منشور في الدليل الإلكتروني للقانون العربي، ص6.

 

12- جريمة الإبادة الجماعية في القضاء الجنائي الدولي، الدكتور محمد خليل مرسي، مرجع سابق، ص7.

 

13- جريمة الإبادة الجماعية في القضاء الجنائي الدولي، الدكتور محمد خليل مرسي، مرجع سابق.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي