رحل نور العيني وبقيَ الظلام ..

د. محمد شداد
الجمعة ، ٢٧ أغسطس ٢٠٢١ الساعة ٠١:٥٥ مساءً

غادرنا المناضل الجسور والسبتمبري الأصيل محسن العيني في غفلةٍ من زمن غادرنا حزيناً  كسيراً على ما قدمه هو ورفاقه في سبيل الوطن، كان يثق بأن الصف الجمهوري مهما اختلف سيتفق، ومهما تفرق سيجتمع، في إطاره السياسي وحدود دولته الجمهورية..

غير أنه لم يكن يتخيل أنه بعد أن تغنى باسم اليمن في المحافل الدولية من فرنسا إلى روسيا إلى بريطانيا إلى الأمم المتحدة كأول سفيراً لها وممثلاً لشعبه الثائر الأصيل، وبعد أن شغل منصب رئيس الوزراء لثلاث مرات خدمة وكفاح بعد أن طاف الدُنا حاملاً قضية وطنه على كتفه في أنحاء الدول العربية من خليجها إلى أقاصي المحيط.  لم يخطر في باله يوماً أنه سيرى صنعاء ثانية تُنشدُ للإمامة وتردد صرخاتها بعد عقود وسنينٍ طوال من نظام الحرية والجمهورية، لم يكن يتخيل أن من خانوا الثورة وتآمروا عليها بعد اختطافها بالأمس، سيهدمون بنيانها بأيديهم لاحقاً حقداً ومكيدة، بعد أن شبعوا من خيراتها ثروات، وأرصدة، تسلط وسلطان...

 سلموها تنكروا لمبادئها، نكثوا بالقسم الجمهورية الذي أقسموه عند التخرج من الكليات وعند تولي المناصب الوزارية والعسكرية والدبلوماسية بأنهم سيحافظون على النظام الجمهوري ووحدة اليمن وسيادة ترابها وكل مكتسباتها.

  ما كان يعتقد أنه سيرى قصيد الزبيري الذي عاتب فيه هُدَّام المعبد الوطني والشرف العالي وقُداس الصنم الطاغي، ويفسحون المجال للأفاعي كي تسكن أحشاء اليمن من جديد، وأنها ستصبح واقعاً مراً يرتعش في قبورهم الثوار وتئن فيها جثامينهم الطاهرة من هول النكسة وجحيم الفاجعة بقصيدته الشهيرة قائلا..

نبني لك الشرفَ العالي فتهدِمُه

ونَسْحَقُ الصَّنَمَ الطاغي فتبْنيهِ

نَقْضي على خصمكَ الأفعى فتبعثُهُ

حيّاً ونُشْعُلُ مصباحاً فتُطْفِيهِ

قَضَيْتَ عُمْرَكَ ملدوغاً، وهأنذا

أرى بحضنكَ ثُعباناً تُربّيه

نعم لم يكن المناضل النبيل محسن العيني يتصور أنهم سيطفؤون شُعل الثورة التي كان زيتها من دمائه والثوار الذين أهرقوه وأوقدوه شعلاً على كل سفحٍ وتل، سحقوا الثعابين التي اعتلت هام الجبال وسكنت السواحل والسهول، حاول العيني طيلة حياته الارتقاء بالعقل المحتل وتحريره من فكرة الطغيان الديني القبلي العصبوي السلالي القاتلة. ألَّف كتابه "خمسون عاماً من الرمال المتحركة قصتي مع بناء الدولة الحديثة في اليمن" سرد فيه كل الأحداث التي كان شريكاً فيها وشاهداً عليها، نفض الغبار عن التاريخ المغيب ونبش زواياه المظلمة، حاول كسر كل قيود الطغيان بكل اشكاله والوانه، بسلاحه الفكري الواسع وقلمه السيال ولسانه العذب وأسلوبه العبقري الحكيم..

رحَلًتْ عنا مصابيح الثورة بعد أن أُخفت ضوئها في حياتها عنوة بعد إقصائها، غادروا اليمن ليعيشوا وراء البحار حيث هُمشَ دورُهم وتاريخهم عن عمد، من أعداء العلم والتنوير والثقافة والجمهورية، فعلها ضيقي الأفق فقيري المبادئ والقيم الثورية والإنسانية، رحل العيني سكن حدقات العيون وعيون القلوب، ذهب بتاريخه الصافي ويده البيضاء وروحه النقية لم يترك عقارات ولا أسهم تركةً أو ارصدة في بنوك..

 ترك ما تركه الشهداء الحمدي والزبيري والسلال وعلي عبدالمغني وعبدالرقيب عبدالوهاب ومحمد علي عثمان وأحمد عبدربه العواضي وعبدالغني مطهر وفيلسوف الثورة حسن الدعيس، ما تركه كل الشرفاء الصادقين المخلصين من حب لهم وذكرى نضال..

الحجر الصحفي في زمن الحوثي