تمزيق النسيج الاجتماعي اليمني

عبدالله حميدالدين
الثلاثاء ، ١٢ ديسمبر ٢٠١٧ الساعة ١١:٠١ مساءً

أمرٌ يتكرر التحذير منه هو تمزّق النسيج الاجتماعي اليمني. ولكّن يبدو أنَّ الأطراف المتحاربة في اليمن تؤجّل التفكير فيه لصالح التحشيد المرتكز على نزع إنسانيّة الطرف المضاد. وفي ظلّ القتل والجوع والمرض والدمّار قد يقول بعض اليمنيين إنّ الاهتمام بالنسيج الاجتماعي ترفٌ. ولكّن القتل والجوع والمرض والدمار هي تحديداً ما يدفع للاهتمام بالنسيج الاجتماعي، لأنّ الحرب التي نشهدها الآن هي في عُمقها نتيجة لاهتراء النسيج الاجتماعي وفي ظاهرها نتيجة لصراع قوى ومحاولة فرض معادلة سياسية جديدة بعد تفكّك منظومة التحالف الرباعي بين الرئيس السابق علي صالح وأسرة الشيخ الراحل عبدالله الأحمر والجنرال علي محسن الأحمر وحزب الإصلاح.

ويُمكن الإشارة إلى ثلاثة عوامل أساسيّة تدفع نحو تمزيق النسيج الاجتماعي اليمني:

العامل الأول: مناطقي: هناك عدة تجليّات للأحقاد المناطقية التي يتم تغذيتها بشكل يومي منذ عقود، ولكّن لعلّ أبرزها اليوم وأخطرها هي المشاعر التي يتم تهييجها بين الجنوبيين والشماليين. ويُمكن تفهّم رغبة الكثير من الجنوبيين للانفصال عن الشمال بسبب ممارسات القيادات الشمالية بعد الوِحدة، ولا يُمكن للجنوبيين نسيان مع حصل لهم في 1994 من انتهاكات ونهب وسلب. وأعتقد أنَّ مطالباتهم تستند إلى مظلوميّة حقيقيّة. في الوقت نفسه أعتقد أنَّ خطاب الكراهيّة الذي صار يستند عليه الجنوبيون للتحشيد من أجل الانفصال سيكون وقوداً لصراع شمالي جنوبي مُستقبلاً. وفي هذا السيّاق يجب أنْ لا نغفل عن التنازع المناطقي الموجود بين أبناء المناطق الشمالية أنفسهم، ولا عن تلك الموجودة بين أبناء المناطق الجنوبية أنفسهم والتي تسببت في أحداث 1986م ولا زالت موجودة إلى حد كبير اليوم.

العامل الثاني: طائفي: الاستقطاب الطائفي في اليمن من أبرز عوامل تمزيق النسيج الاجتماعي اليمني. كل الأطراف تنعت الطرف المخالف لها بأقسى نعوت التسفيه والتكفير. طرفٌ يُسمّي خصومه دواعش وإرهابيين وتكفيريين وآخرٌ يسمّي خصومه صوفيّة ومبتدعة ورافضة ومجوس وصفويين. والكل يُكفّر الثاني. اليمن لم يعرف الطائفية في تاريخه، والهويّات المذهبيّة – الزيدية والشافعية – لم يكن لها دورٌ بارز في الحياة السياسية ولا الاجتماعية، بل كثيرٌ من الزيدية والشافعية لم يكن يُنشّأ على هويّة مذهبية. كان المذهب بالنسبة لمن يمارسه حالة دينية فردية وليس هويّة وانتماء جمعي. وحتّى الآن يُمكن القول بكثيرٍ من الثقة إنَّ اليمن لا زال بعيداً عن الطائفية الشاملة والعامة، وذلك لأولوية الهويّات المناطقية والقبليّة على الهويّات الدينيّة، ولِترسّخ إرث التسامح الديني بين اليمنيين. ولكّن التراشق الطائفي وتوظيف الطائفية لتحشيد المقاتلين وتزايد تسويغ نزع أنسنة الآخر بالإرتكان إلى الطائفة. بمعنى آخر اليوم هناك طائفيون ولكن لا زال اليمن غير طائفي، ولو استمر الحال على ما هو عليه سيصبح اليمن طافحاً بالطائفية والكراهية والتعصب المصاحبين لها.

العامل الثالث: عِرقي: ولعلّ هذا أهم عامل من عوامل تمزيق النسيج الاجتماعي اليمني. وأبرز مثال له هي خطابات الكراهيّة التي يبثّها البعض هنا وهناك عن الهاشميين في اليمن. ومنذ ثورة/انقلاب 1962م وهم يوصفون بالجهل والتخلّف والإقطاعية والكهنوتية والسلالية والرجعية، ويُتهمون بأنَّهم يسعون إلى إعادة اليمن إلى الماضي وإلى الفقر وإلى المرض وما إلى ذلك من عبارات يعرفها كل يمني بل ويعرفها أي متابع لليمن عن قُرب. بل قام السياسيّون والمثقّفون على مدى عقود منذ 1962م بإشاعة خطاب ثقافي جعل الثورة في عُمقها انقلاب على الهاشميين وليس مجرد انقلاب على نظام حكم كان على رأسه هاشمي. وقد نشأ جيل يمني وهو يسمع تلك الأوصاف ويصدّق تلك الاتهامات. إحدى نتائج هذا الشحن العنصري ضد الهاشميين كان قطيعة عميقة مع جزء كبير من تاريخ اليمن وماضي اليمن لمجرّد تصدّر بعض الهاشميين للمشهد السياسي (أصلاً، أغلب الهاشميين كانوا خارج لعبة السياسة والمنافسة على الصدّارة). نتيجة أخطر على نسيج اليمن الاجتماعي كانت إقصاء الكثير من قيادات الهاشميين الاجتماعية ووجهائهم ووَضْعهم بشكل متواصل تحت دائرة الاتهام. ولكّن لعلّ أخطر نتيجة كانت اعتبار الهاشميين كلاً متجانساً، ما يقوم به أحدهم أو بعضهم يقوم به كلَّهم، وما يؤمن به أحدهم أو بعضهم يؤمن به جميعهم. كل هذا بمجموعه جعل الهاشميين في حالة احتقان عميقة وأشعرَ الكثير منهم بالإهانة وأربك علاقة بعضهم بالثورة بالرغم من أنَّها انطلقت على يد ضُبّاط من فئات يمنية مُختلفة منهم هاشميّون معرفون. ولا شكَّ في أنَّ بعض الهاشميين قبل 1962م شركاء في مسؤولية مشاعر الكراهيّة ضدهم بسبب ممارسات بعضهم العنصرية والمتعالية وإصرار بعضهم على الامتيازات دينية الأصل من خلال تفسير بعض النصّوص الدينية بطريقة بعيدة عن الظاهر، ولكّن ردّ الفعل المقابل كان متطرفاً في كراهيته وعنفه وفي تعميمه وكانت لهذا رد الفعل نتائج كارثية على اليمن. بل إنّ إحدى الأسباب المهمّة التي مكّنت الحوثيين كان خطاب الكراهية ذلك، الذي لم يكتف بكراهية الهاشميين وإنما أيضاً بكراهية مذهب الزيدية باعتباره مذهب الأئمة الذين مضوا. ومنذ نشوء الحركة الحوثية أحيا بعض السياسيين والمثقفين اليمنيين لغة الكراهيّة التي تلت 1962م وقد تصاعدت هذه اللغة بعد دخول الحوثيين صنعاء في 2014م ثم بعد بدء عاصفة الحزم، والآن بعد مقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح وصلت إلى ذروة غير مسبوقة. ولغة الكراهية هذه تثير القلق مستقبل النسيج الاجتماعي اليمني وعلى التعايش والسلم الأهلييْن. وبلا شك فقد تكون بعض هذه المشاعر مُستحدثة ونتيجة لممارسات بعض الحوثيين، وخاصة بعدما قُتل الرئيس صالح وما تلاه من أحداث، ولكّنها مع ذلك غير مُبرّرة وستضر اليمن بكافة أطيافه.


لقد عانى اليمن - ولا يزال - ما فيه الكفاية. والحرب الحاليّة ستنتهي عاجلاً أم آجلاً. وحينها سيحتاج اليمنيون إلى الجلوس معاً لإعادة بناء اليمن، ولرعاية ضحايا الحرب من ثكلى وأيتام وأرامل وجرحى، ولمعالجة آثار الحرب من فقر ومرض، ولن يُمكنهم ذلك في ظلّ مشاعر كراهيّة عميقة وراسخة. ولعلّ أكثر ما سيحتاجه اليمن هو مصالحة وطنية عميقة وصريحة، تتناول الماضي والحاضر، وتفكك التصوّرات التي يملكها كل طرف عن آخر، ويتم الاتفاق على ضرورة منع استمرار تغذية الكراهيّة، والخروج بصيغةٍ يتذكر فيها اليمنيون ماضيهم بدون انتقاص فئة ما أو رفع فئة ما. وفي الأثناء تحتاج اليمن إلى عقلاء من كلّ الأطراف يُراقبون التصريحات والخطابات والممارسات التي تزيد من تفتيت النسيج الاجتماعي وتعزز الكراهيّة ويجتهدون في بيان أثرها التدميري بل ويعلنون رفضهم لها، سواء كان مصدرها من طرفهم أو من طرف آخر.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي