لقد حبا الله -سبحانه وتعالى- محافظة تعز أودية خصبة، وأنهاراً لا بأس بها، تنتج هذه الأدوية أفضل أنواع الفواكه من مانجو وبابونج وجوافة وعنب موز ونخيلاً وغيرها.
كما حبا جبالها وأحراشها أشجاراً تكسو هذه الجبال والهضاب والأحراش خضرة وتزيدها جمالاً ونضارة وكأنها في بعض المواقع والمواسم جنان خضر يذهب إليها السكان والزائرون للنقاهة والاستجمام وقضاء العطل الرسمية والترويح عن النفس في الأعياد، لا ينقصها سوى الترتيب والنظافة والترويج وتوفير الخدمات المحلية من مقاصف ونزلاً لجعلها مناطق سياحية داخلية لكل اليمن.
هناك وادي الضباب الخصيب، ووادي البركاني الثمير، ووادي موقعة النضير، وبينها وجوارها وديان وأنهار وأراضٍ شاسعة لا تقل جمالاً ولا أهمية ولا إنتاجاً عن الأودية المذكورة، وكانت تمثل عبر التاريخ القديم والوسيط والمعاصر سلالاً غذائية ليس لأبناء تعز وحسب بل حتى لكثير من المحافظات اليمنية كعدن وصنعاء وغيرها، وتعتبر من أهم مقومات الإنتاج الغذائي لليمن.
هذه المناظر الخلابة تضفي بهاءً وترويحاً للنفس، ورونقاً وجمالاً للمحافظة، وتحافظ على البيئة من التلوث الهوائي والنظري، وتوفر كميات لا محدودة من الأوكسجين النقي التي تجعل ريف تعز من أفضل المحافظات صحة وبيئة يانعة تعج بالحياة، ولو كانت في أي بلد آخر لكانت أهم وجهة سياحية داخلية تعود بالريع الوفير والأموال المتدفقة على المواطنين والدولة على السواء، ولكانت إحدى مقومات نهضتها في كل المجالات...ولكن!
لكن.. مع عدم وجود مؤسسات الدولة الفاعلة، وعدم إدراك المآلات والنتائج الكارثية المستقبلية، وعدم المحافظة على هذه النعم التي ربما بطرها الناس، سارع المواطنون والمتنفذون لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ يتم استبدال كل تلك الهبات الربانية من الأشجار المثمرة والفواكه الغنية المغنية أهلها إلى الشجرة المقيتة وهي شجرت القات، لهثاً وراء المكاسب المادية السريعة، وكأن لعنة حلت بهذه البلاد والوطن جراء عمى البصيرة الذي أصيب به الناس، والأمور تمضي إلى محق هذه البركة، وبطر الناس معيشتهم، بشجرة لا تسمن ولا تغني من جوع، لطالما كانت مدمرة الاقتصاد الوطني، ومضيعة شباب الأمة اليمنية الباحثين عن الكيف، والنشوة المؤقتة التي تدمر البلد أرضاً وإنساناً.
لقد شاهدت بأم عيني ودياناً كانت بتلك الصفات الجميلة وبركة السماء تحل على الناس حتى أن الأمطار كانت غير محدودة ولم تكن موسمية فقط بل متقطعة في كل المواسم، وكان الناس يزارعون مرتين في العام الواحد، والجميع لا يشكو جوعاً ولا حاجة، ومياه الأنهار والسيول والغيول متدفقة طوال العام، حتى تم غرس الشجرة الملعونة فاستحالت حياة الناس كوابيس متعددة، وصار النعيم جحيماً، ونزفت الغيول، وقلت السيول، وأمسكت السماء، وأجدبت الأرض، وأفلس الناس، وهاجر كثير من السكان.
اليوم هذه الأودية الخصبة في طريقها إلى تحول نكران النعم، واستجلاب النقم، يتم قلع الأشجار المثمرة من المانجو التي شهرت بها هذه الأودية واستبدالها بشجرة القات المدمرة، ونحن نراقب قلة منسوب الأنهار والمياه عاماً بعد آخر، والبركة تمحق، والرزق يقل رغم التوهم بجبي الأموال من هذه الشجرة؛ لكنها لا تعدو عن كونها أموال سحت، لا ينتفع بها إلا قلة قليلة من الجشعين.
أشجار المانجو تلك وغيرها من الأشجار المثمرة انتظرها الناس عقوداً من الزمن، وبعضها مئات السنين، لا يستطيع الإنسان تعويضها بسهولة، أو انتظار ثمارها سنين عددا، ونحن نراها تتسلل من بين أيدينا ونهدر ثروات البلد، والاقتصاد القومي، والسلة الغذائية.
لم يكن استبدال شجرة القات لوحده السبب، وإن كان السبب الرئيس والأكثر والأسرع زحفاً، بل هناك أسباب أخرى كالاحتطاب الجائر، واقتلاع الأشجار المغطية للجبال والأحراش والهضاب، مما يفقد تعز سندسها الأخضر، وثوبها القشيب، ونضارتها الآسرة للألباب، فالدول التي تحترم نفسها تبذل الميزانيات العالية لغرس الأشجار لتوفير كل ما سبق، وحتى لا تتعرض البلدان للتصحر ولا للجفاف ولا للجدب.
كذلك الزحف العمراني في هذه الأودية، وتوقيف بعض الأراضي لجعلها أرضاً بوراً بسبب الخلافات الأسرية، وغيرها من الأسباب الكثيرة.
وبناءً على كل ما سبق، أناشد فخامة الرئيس الدكتور رشاد العليمي إيقاف هذا الإجرام الذي سيدمر تعز وغذاءها ومشربها، بل وحياتها؛ فالماء هو الحياة، والغذاء هو صلب ونهضة البلاد.
الأمر يسير جداً يا فخامة الرئيس، لن يكلف اليمن شيئاً، ولن يكلف خزانة الدولة دولاراً واحداً، ولا يحتاج لأي شيء من التضحيات أو المصادمات المجتمعية، أو هيئات، ولا إنشاء مؤسسات، ولا فرضاً إجبارياً عبر الأمن ولا القوات المسلحة، بل الأمر أيسر من كل ذلك.
الأمر المعالج لهذه الأزمة هو أن تصدر قراراً جمهورياً بجعل المناطق الغربية والجنوبية لتعز محمية طبيعية ممتدة من نقطة الهنجر عند مدخل المدينة الغربي وحتى مدخل ساحل ومدينة المخاء حيث أشجار السمر الكثيرة التي تنتج العسل الشوكي العلاجي المعروف بعسل السمر؛ فتلك المناطق أيضاً يتم تدميرها بالاحتطاب الجائر، وهي تصلح لأن تكون غابة ومحمية طبيعية للبلاد، حماية للبيئة.
أعلم يا فخامة الرئيس أنكم كنتم على رأس جمعية (يمن بلا قات) فأنت لا تتعاطى القات وتحاربه، وأرجو أن تدركوا هول هذه الجريمة الجائرة التي تصل إلى حد الكارثة؛ فلا يطلب منكم الكثير، وليس لها صعوبات كصعوبات التحرير، أو إنشاء المشاريع المختلفة؛ على الأقل نريد هذا الأمر اليسير.
قبل عامين وأنا أتجول في هذه المناطق شاهدت هذه الكارثة الماحقة، فأرسلت بهذا المقترح إلى محافظ المحافظة نبيل شمسان ولم يعر الموضوع أدنى اهتمام، مع أنه من صلب عمله، ولم يرد حتى بالتحية على الرسالة، مما اضطرني أن أكتب في وسائل الإعلام، وأناشد فخامتكم لهذا الأمر.
قد ينظر الكثير لهذا الموضوع باستخفاف، وقد يسخر من طرقنا لهذا الموضوع، كما تمت السخرية من قبل لمواضيع كثيرة، وقد يعتبرونها لا تساوي شيئاً أمام مطالب تحرير بقية المحافظة، لكنها والله كارثة ولعنة ستحل على تعز لن يدركها الناس إلا حين تقع مستقبلاً.
-->