خواطر رمضانية (8): موقف ابني آدم، هابيل وقابيل، من آثار وسوسة إبليس في القرآن: تدبر في "قال"
تأتي هذه الخاطرة استكمالًا لما تناولناه سابقًا عن جعل الله آدم عليه السلام خليفةً في الأرض، ثم اعتراض الملائكة، وقصة تمرد إبليس واستعدائه لآدم وذريته، وتعهده بإغوائهم. وقد عبّر عن ذلك بقوله:
﴿وَلَأُحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: 62).
وهنا، يشير تعبير "احتناك" إلى السيطرة التامة، كما يُقاد الفرس باللجام، فيرمز إلى تمكن إبليس من تضليل بني آدم وقيادتهم إلى المعصية، باستثناء من عصمهم الله من عباده المخلصين. ومن مظاهر هذا الاحتناك ما حدث بين هابيل وقابيل، حيث كانت وسوسة إبليس أحد العوامل غير المباشرة في نشوب أول صراع بشري انتهى بجريمة قتل.
الفتنة الأولى: كيف دفع إبليس قابيل لقتل أخيه؟
بعد أن خدع إبليس آدم وحواء وأخرجهما من الجنة، جاء دور ذريتهما ليقعوا فريسة للوسوسة. كانت قصة هابيل وقابيل درسًا عظيمًا في ضبط النفس والتمسك بالقيم الإيمانية حتى في أصعب الظروف. لم يكن هابيل ضعيفًا، لكنه كان يخشى الله، فلم ينجرَّ إلى الظلم وسفك الدماء.
في المقابل، لم يكتفِ قابيل بالتهديد، بل نفَّذ جريمته وقتل أخاه ظلمًا. لكن اللافت أن ندمه لم يكن بسبب إحساسه بالذنب أو رغبته في التوبة، بل كان ندمًا على عجزه عن التصرف في جثة أخيه وإخفاء جريمته.
دور الغراب في تعليم قابيل
لذلك، أرسل الله غرابًا ليبين له مدى جهله، ويعلمه كيفية دفن الموتى، في إشارة إلى فقه التعامل مع الجثث. لم يكن الدرس في مجرد الدفن، بل في إدراك قابيل أنه رغم جريمته، لا يزال جاهلًا بأبسط الأمور، مما زاد من إحساسه بالخزي والندم.
1. وسوسة إبليس كدافع للصراع بين هابيل وقابيل
لم يوسوس إبليس لقابيل مباشرةً كما فعل مع آدم وحواء، لكنه أوجد بيئة نفسية تغذي الكراهية والحسد. فالغرور، والغيرة، والتنافس غير العادل، كلها مداخل يستغلها الشيطان لإفساد القلوب. هذه القصة تمثل أول تجلٍّ لصراع البشر بسبب الانحراف عن منهج الله، وهو ما سيتكرر في كل العصور بأشكال مختلفة.
2. تدبر "قال" في القصة
جاء استخدام كلمة "قال" في القصة ليعكس مواقف الشخصيات، كما وردت في الحوار:
﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ (المائدة: 27) → تعبير عن قرار قابيل المتأثر بالهوى والشيطان.
﴿قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: 27) → رد هابيل الحكيم المبني على التقوى والخوف من الله.
﴿قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي﴾ (المائدة: 31) → ندم قابيل، لكنه لم يتحول إلى توبة صادقة.
3. العبرة المستفادة: كيف نحمي أنفسنا من وسوسة إبليس؟
التمسك بالتقوى كما قال هابيل: ﴿إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ (المائدة: 28).
عدم الانجرار وراء الغضب والحسد، لأنهما من مداخل الشيطان.
الرجوع إلى الله عند الخطأ، على عكس قابيل الذي ندم لكنه لم يتب.
الخلاصة
تعلمنا هذه القصة أن مخافة الله تمنع الظلم، وأن الحسد قد يؤدي بصاحبه إلى أعظم الجرائم، ومنها القتل. كما أن الندم وحده لا يكفي إن لم يكن مصحوبًا بتوبة صادقة تدفع إلى الإصلاح.
كذلك تعلمنا أن الحكمة قد تأتي من مصادر غير متوقعة، حتى من مخلوقات ضعيفة كالغراب.
ختامًا
الصراع بين الخير والشر مستمر إلى قيام الساعة، وإبليس يستخدم الأساليب ذاتها في الوسوسة. لم تكن قصة ابني آدم مجرد حكاية من الماضي، بل هي مرآة تعكس طبيعة البشر عبر العصور. الحسد الذي أشعل نار الفتنة بين هابيل وقابيل ما زال يشعل حروبًا وأطماعًا لا تنتهي، والندم الذي أصاب القاتل بعد فوات الأوان يتكرر في كل من يخطئون الطريق ولا يعودون حتى تضيق بهم السبل.
لكن العبرة الكبرى تظل في قدرة الإنسان على الاختيار. لم يكن قابيل مجبرًا على القتل، ولم يكن هابيل عاجزًا عن الدفاع عن نفسه، بل اختار كل واحد منهما طريقه. وهكذا نحن اليوم، نقف بين خيارين: أن نستسلم لوسوسة إبليس، أو أن نسمو فوق الصراعات ونتبع طريق التقوى كما فعل هابيل.
والسؤال الذي يظل مطروحًا: هل سنتعلم الدرس قبل أن نكون بحاجة إلى غراب ليعلمنا ما عجزنا عن فهمه؟
اللهم طهر قلوبنا من الشرك، والشك، والنفاق، وسوء الأخلاق، والعجب، والكبر، والحسد... اللهم آمين.
-->