تأملات في الآية الكريمة
يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
"وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ"
(البقرة: 14)
التدبر والعبرة
هذه الآية الكريمة تسلط الضوء على إحدى أخطر الظواهر الاجتماعية والدينية، وهي النفاق، حيث يظهر بعض الناس الإيمان ظاهريًا بالقول فقط، بينما تخفي قلوبهم الكفر والرياء. هؤلاء يتظاهرون بالتقوى والصلاح حين يكونون بين المؤمنين، لا بدافع الإيمان، بل اتقاءً للوم المجتمع أو تحقيقًا لمصالح شخصية. ولكن بمجرد أن يختلوا بمن يشاركونهم المنهج والمكر، يبوحون لهم بحقيقتهم، مؤكدين أنهم معهم في الباطن، وأن ما يظهرونه من إيمان ما هو إلا خداع وسخرية.
في عصرنا الحاضر، نجد هذا النفاق متجسدًا في دول وأفراد وجماعات تدّعي التمسك بالدين ظاهريًا، لكنها في حقيقتها تمارس أفعالًا تتنافى مع قيم الإسلام والعدل والسلام وحقوق الإنسان. ولعل أبرز مثال على ذلك بعض الجماعات التي تتخذ من الدين شعارًا لتحقيق مكاسب سياسية، بينما واقعها يعكس استغلالًا للدين وتوظيفه كوسيلة للسيطرة والنفوذ.
من هذه الجماعات جماعة الحوثيين، الذين يرفعون شعارات الارتقاء بالمواطن وهم يسوقونه إلى المهالك، ويدّعون دعم القضايا العادلة، مثل القضية الفلسطينية، بينما مواقفهم الفعلية تكشف تناقضهم، حيث ينشغلون بمصالحهم الضيقة، متجاهلين مبادئ العدل والإنسانية التي يدّعون الدفاع عنها.
وهذا النفاق ليس مقتصرًا على المجال السياسي فقط، بل يتجلى أيضًا في مجالات متعددة، كمن يدّعون الورع والتقوى، بينما يمارسون الفساد والظلم في الخفاء، أو من يتحدثون عن العدالة والمساواة، بينما يحاربون كل من يخالفهم الرأي.
الدروس المستفادة
1. الإيمان الحقيقي لا يكون باللسان فقط، بل يجب أن يكون راسخًا في القلب ومترجمًا إلى أفعال صادقة. فليس كل من يؤدي الطقوس والشعائر يُعد مؤمنًا حقيقيًا، فالمؤمن هو من يظهر إيمانه في سلوكه اليومي ومواقفه الحياتية.
2. العمل الصالح يجب أن يكون خالصًا لوجه الله، وليس للدعاية أو المصالح الشخصية. فمن افتقد الإخلاص فقد جوهر الإيمان، إذ إن الإخلاص هو روح العمل الصالح. فمن يعمل من أجل الناس لا من أجل الله، فإن عمله يصبح جوفاء لا قيمة له، كما قال تعالى:
"إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" (المائدة: 27).
3. النفاق آفة خطيرة تدمر المجتمعات. فهو يخلق بيئة غير مستقرة، حيث يصبح الولاء متغيرًا، والمواقف غير صادقة، مما يؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية وانتشار الفساد. والنفاق يفسد العلاقة مع الله، فهو مرض قلبي خطير. إن الله يعلم المُفسد من المُصلح، وإن الله عزيز حكيم.
4. الثبات على المبادئ هو معيار الإيمان الحقيقي. لا ينبغي أن يكون الإيمان متغيرًا حسب الظروف، فمن كان صادقًا في إيمانه، ظل ثابتًا عليه سواء كان بين المؤمنين أو في أي مكان آخر.
5. السخرية بالمؤمنين والمبادئ الأساسية خطر عظيم. احترام رأي الأغلبية واحترام قناعات الأقلية أساس متين للحفاظ على وحدة المجتمع، بينما يؤدي استغلال الدين لتحقيق مكاسب شخصية إلى تمزيق الصفوف وزرع الفتن.
خلاصة التدبر
تكشف هذه الآية العظيمة عن خطورة التلون والتلاعب بالدين، وتحذر من العواقب الوخيمة للنفاق، سواء كان على مستوى الفرد أو الجماعة. فالإيمان لا يكون ادّعاءً، بل هو التزام صادق ينعكس في التصرفات والسلوكيات. وكما لا يجوز للمرء أن يتلاعب بالدين لتحقيق مكاسب دنيوية، لا يجوز أيضًا استغلال المبادئ الوطنية أو الثورية لتحقيق مصالح ضيقة، لأن ذلك يقود إلى الفوضى ويفسد المجتمعات.
رمضان هو فرصة عظيمة لمراجعة النفس وتصحيح المسار، فليكن إيماننا صادقًا، ولتكن أفعالنا مطابقة لأقوالنا، بعيدًا عن التناقض والتلون.
والله المستعان.
-->