خواطر رمضانية (3): حوار القول والفعل – بين التلكؤ الصهيوني ونكث العهود

د. علي العسلي
الاثنين ، ٠٣ مارس ٢٠٢٥ الساعة ١٢:٠٨ صباحاً

 

سنحاول هذه الليلة تحليل ورود كلمتي "قال" و"قل" في القرآن الكريم، حيث تأتيان في المرتبة الثانية والثالثة على التوالي من حيث التكرار.

"قال" (1729 مرة) تشير غالبًا إلى نقل كلام قيل في الماضي، سواء كان ذلك على لسان الأنبياء، أو الشيطان، أو البشر، أو حتى الله سبحانه وتعالى عند رواية أحداث معينة.

"قل" (1724 مرة) تأتي بصيغة الأمر الإلهي إلى النبي محمد ﷺ أو غيره، وهي دعوة مباشرة للتبليغ والتوجيه الإلهي للبشرية.

وأبدأ بربط هذه المفاهيم بالأحداث الجارية، مثل قصة البقرة، وسقاية الماء، واتفاق غزة، وربما نهتدي من خلالها إلى نقاش أوسع حول القضايا الكبرى.

التلكؤ والمراوغة في تنفيذ العهود – بين الماضي والحاضر

عند النظر إلى تعامل بني إسرائيل مع الاتفاقيات، سواء في التاريخ القديم أو في السياسة المعاصرة، نجد نمطًا متكررًا من المماطلة، والجدال، والمراوغة، وهو ما يمكن ربطه بالنص القرآني في أكثر من موضع.

1. قصة ذبح البقرة – مثال على التسويف والجدل العقيم

عندما أمر الله بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام بذبح بقرة، كان الأمر بسيطًا وواضحًا، لكنهم بدؤوا بسلسلة من التساؤلات التي لم تكن إلا محاولات لتعطيل التنفيذ وتأجيل الامتثال:

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (البقرة: 67).

وهكذا، تشير الآيات الثلاث التالية إلى أسئلتهم حتى انتهى بهم الأمر إلى التنفيذ القسري:

﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ (البقرة: 71).

هذا السلوك، الذي يعتمد على التحجج والتلكؤ والمراوغة في تنفيذ الأوامر الإلهية، هو ذاته ما نراه اليوم في مماطلة حكومة نتنياهو في تنفيذ اتفاقيات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والبروتوكولات الإنسانية المرافقة، حيث تبدأ بالموافقة المبدئية، ثم تنتقل إلى وضع اشتراطات جديدة، وإثارة نقاط خلافية، وطلب تفسيرات إضافية، تمامًا كما فعل بنو إسرائيل في قصة البقرة!

2. نكث العهود والمراوغة في الاتفاقات

القرآن الكريم وثّق ميل بني إسرائيل إلى نكث العهود والمراوغة، وهو ما يمكن إسقاطه بوضوح على تعاملهم مع اتفاق غزة، حيث يظهرون استعدادًا ظاهريًا للقبول، ثم يعودون لخلق العقبات:

قال تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة: 100).

وقال تعالى:

﴿الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ﴾ (الأنفال: 56).

وهذه هي سياسة الكيان الصهيوني الدائمة: تقديم الوعود ثم التراجع عنها، والموافقة على شروط ثم تعطيل تنفيذها، مما يؤدي إلى انهيار الاتفاقات وتأزيم المواقف السياسية.

اتفاق غزة وتكتيكات نتنياهو المكررة

إن طريقة تعامل نتنياهو مع اتفاق غزة تتبع النمط نفسه:

1. يبدأ بقبول المبادئ العامة، ثم يفتح باب المفاوضات الطويلة، ويغير المفاوضين بهدف إضاعة الوقت واستنزاف الطرف الآخر.

2. يستخدم المجادلة العقيمة والأسئلة غير الضرورية، كما فعل بنو إسرائيل مع موسى.

3. يعقد اتفاقًا مع حماس، لكنه يحاول تجريدها من السلاح والسلطة... كيف؟!

4. يطلب شروطًا إضافية وتفسيرات جديدة، رغم وضوح الاتفاق بمراحله الثلاث.

5. في النهاية، قد يقدم تنفيذًا جزئيًا أو تحريفًا لما تم الاتفاق عليه، بالإبقاء على المرحلة الأولى فقط لتبييض غزة من الرهائن، ثم العودة للتصعيد من جديد.

ختامًا: 

 

"قل" مقابل "قال" – حتمية المواجهة مع الحقيقة

إذا كان التاريخ يعيد نفسه، فإن الفرق بين "قالوا" و"قل" في القرآن الكريم يعكس الفارق بين:

- من يماطل ويجادل ويتحجج، وبين من يحسم ويقرر ويأمر.

- من يتراجع عن العهود، وبين من يثبت عليها.

- من يعطل التنفيذ بالمراوغة، وبين من ينفذ بصدق وإرادة.

لذلك، فإن المواجهة بين الحق والباطل في السياسة ليست فقط صراعًا عسكريًا، وإنما أيضًا صراع بين الحسم والمراوغة، وبين الصدق والتحايل، وبين التنفيذ الحقيقي والتلكؤ المستمر.

وهكذا، فإن من يتأمل القرآن الكريم يجد أن ما يحدث اليوم ليس سوى نسخة حديثة من سلوكيات بني إسرائيل القديمة، مما يستوجب التعامل معهم بفهم عميق لطبيعة تكتيكاتهم، وعدم الانجرار إلى حوارات عبثية لا طائل منها.

"قال"، و"قل"، و"قالوا"... سنفرد لها عدة حلقات لقصص وحكايات ينبغي التوقف عندها، والتفكير والتدبر والاعتبار منها وفيها...

والله المستعان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي