في عالم تتشابك فيه الأزمات السياسية والاجتماعية، تتجلى قصتان مختلفتان من سوريا واليمن، تعكسان أوجه التشابه والاختلاف في التعامل مع التحديات. وبينما يتقدم السوريون بخطى ثابتة نحو استعادة دولتهم، يبدو اليمن محاصرًا في دوامة من التعثر والانقسام. هذه المقارنة المؤلمة تهدف إلى إيقاظ الضمائر وشحذ الهمم لتغيير واقع اليمن نحو الأفضل.
القصة السورية: من الفوضى إلى النظام
في سوريا، ورغم التعددية القومية والإثنية والدينية، استطاعت القوى الوطنية التحرر من قبضة النظام القديم. في أقل من أسبوع، انهار النظام وداعموه، وهرب رأس النظام دون إخطار المقربين. بدأت القوات الأجنبية على الأرض التفاوض مع السلطة الجديدة، مبدية استعدادها للانسحاب، وتسابقت الدول في إرسال وفودها إلى دمشق.
خلال عشر سنوات، ورغم ضعف الموارد، نجح السوريون في بناء نموذج مصغر لدولة حديثة في محافظة إدلب. تم تأهيل الكوادر فيها وإرساء دعائم الحكم الرشيد. وبمجرد تسلم قيادة إدارة العمليات السلطة في دمشق:
الكهرباء: بعد أن كانت خمس ساعات انقطاع وساعة إنارة، أصبحت الكهرباء متوفرة معظم الوقت.
الاقتصاد: استقرت العملة، وتحسنت الأسواق، وقررت الحكومة المؤقتة دفع ثلاثة رواتب دفعة واحدة ورفع الرواتب بنسبة 400%.
الخدمات: أُعيد تشغيل المطارات، وعادت عجلة الاقتصاد للدوران كما لو أن شيئًا لم يحدث.
القصة اليمنية: من الشرعية إلى التعثر
في اليمن، ورغم وحدة الدين والثقافة، انقلب الحوثيون على السلطة الشرعية واستولوا على الدولة. اضطر الرئيس الشرعي إلى الفرار وطلب الدعم من الدول المجاورة، كما حدث في سوريا.
رغم تحرير عدة محافظات، بقي الولاء للشرعية متذبذبًا، بل تراجعت قيم الجمهورية اليمنية في بعض المناطق المحررة، حتى أصبح رفع العلم الرسمي فوق بعض المؤسسات يبدو وكأنه جريمة.
المؤسسات: بقيت هشة، ومظاهر الدولة ضعيفة.
الاقتصاد: البلد تعيش مرحلة الركود، العملة منهارة والرواتب مقطوعة أو متأخرة. غلاء السلع في ارتفاع بسبب التضخم الجامح، والرواتب إذا دُفعت لم تعد تكفي إلا لأقل من أسبوع للمعيشة في الحد الأدنى.
ونظراً لمركزية كل شيء في الدولة السابقة، كان كل شيء مرتبطًا بالعاصمة، من قاعدة البيانات إلى مركزية التجارة والاستيراد والاتصالات. وظهر فيما مضى أن موظفي الشرعية في صنعاء كانوا يعملون كموظفي جباية للحوثي، وكأنهم حقًا 'خدام أصحاب الجراف' في صنعاء!"
الخدمات: الكهرباء معظم الوقت منقطعة.
المشاريع الانفصالية: حالت دون بناء نموذج يُحتذى به.
الإدارة: المؤسسات المنقولة إلى المناطق المحررة واجهت صعوبات تشغيلية بسبب غياب التنسيق والتباينات.
على مدار عشر سنوات، فشلت الشرعية في تقديم نموذج تنموي أو إداري مُلهم. بل إن التحالف الداعم للشرعية أسهم، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، في تعقيد المشهد عبر دعم بعض دوله للمشاريع الصغيرة التي طغت على المصلحة الوطنية العليا، مما جعل المناطق المحررة أشبه بكونتونات مستقلة.
مقارنة مؤلمة
1. التوافق الوطني:
في سوريا: توحدت أكثر من عشرين فصيلًا عسكريًا في جيش موحد خلال أسبوعين، واتفقوا على أن لا سلاح إلا بيد الدولة حصرًا، ولا بد من الانتقال من الثورة إلى الدولة.
في اليمن: رغم الحوار الوطني واتفاق الرياض ومشاورات الرياض، لم يتحقق التوحيد أو هيكلة القوى العسكرية المتعددة في مناطق الشرعية. السلاح منتشر بيد تشكيلات عسكرية، والدولة مقسمة ومجزئة الى مربعات أمنية وادارية واقتصادية.
2. إدارة المناطق المحررة:
في سوريا: أُعيد تشغيل المطارات، وتحسنت الخدمات سريعًا.
في اليمن: مطار الريان مغلق منذ عشر سنوات، وسقطرى والموانئ خارج سيطرة الشرعية، رغم أن الحوثيين لم يصلوا إليها.
3. الكفاءات والكوادر:
في سوريا: استوعبت القيادة الجديدة كوادر الدولة وفتحت مكاتب لترتيب أوضاع الموظفين.
في اليمن: لم تُستوعب الكفاءات النازحة، ولم يُستفد من خبراتهم ولم يُستقبل موظفو الدولة الرئيسيون.
4. التغيير السريع:
في سوريا: الانتقال إلى الحكم الرشيد كان سلسًا.
في اليمن: ما زالت الشرعية تعمل دون قواعد منظمة لأعمالها، ولا إعمال الدستور والقانون وتفعيل المؤسسات مما يعكس ضعف الأداء المؤسسي.
5. الحوار الوطني والمصالحة:
في سوريا: أُعلن عن مؤتمر وطني شامل لتشكيل حكومة انتقالية.
في اليمن: جرى حوار وطني شامل أفضى إلى كتابة مسودة للدستور الاتحادي للدولة الحديثة، إضافة إلى اتفاقات وتفاهمات، ولكن ظل التنفيذ ناقصًا وغير دقيق.
رؤية الدولة
في سوريا: استطاعت القيادة الجديدة بما تملكه من رؤية وطنية أن تُقنع العالم بجديتها، مما دفع الدول لإلغاء تصنيفها السلبي وفتح قنوات التعاون معها.
أما في اليمن: رغم الاعتراف الدولي بالشرعية، إلا أن غياب الرؤية الواضحة وعدم توحيد خطاب الشرعية يُضعف ثقة العالم بها.
وقد يكون بعض أعضاء مجلس القيادة الرئاسي، عند التقائهم بمسؤولين أجانب، يكتفون بعرض قضاياهم الخاصة، بل قد يشككون بالآخرين وربما يحرضون عليهم ويتمنون تصنيفهم بالإرهاب أو إصدار بحقهم عقوبات .
وحتى فيما بينهم المجلس، لم يتمكنوا حتى الآن من إصدار وتطبيق القواعد المنظمة لعملهم ومهامهم، مما يُعمّق الفوضى ويُضعف الأداء والثقة بهم كقادة.
حتى الآن، يعمل مجلس القيادة الرئاسي دون إقرار قواعد عمل واضحة، رغم انتهاء الفريق القانوني من صياغتها وتسليمها منذ مايو 2022.
وتخيلوا معي أن رئيس الفريق القانوني، فضيلة العلامة القاضي حمود الهتار أخر دعوة له، كانت يوم امس، دعا اعضاء المجلس من أن يصدروا ما انجزه فريقه في اول مهمة كلف بها، قبل سنة ونصف ولم تصدر بعد.لا توجد مأسسة ولا تشريع، مما يعكس تأخرًا غير مبرر يُعطل خلق نموذج في الحكم الرشيد.
خاتمة
القصة السورية تقدم درسًا عمليًا يمكن لليمنيين التعلم منه. إن تغليب المصلحة الوطنية، وبناء نموذج مُلهم في المناطق المحررة، واستيعاب الكفاءات، وتنفيذ الاتفاقيات يمكن أن يُعيد الأمل لبناء يمن اتحادي رشيد.
مارب في يمننا الحبيب هي ما تبقى لنا من نموذج الدولة والجمهورية اليمنية، وهي أمل بناء يمن المستقبل. قد تكون مثل أختها إدلب، بل أفضل منها، لأنها وهي تمارس وظيفتها ودورها، تمارسها باسم الجمهورية اليمنية ولا شيء غيرها. تورد إيراداتها إلى البنك المركزي، وتغذي كهرباء عدن، وتدعم الجيش الوطني على أرضها. تحية لقائدها وأبنائها.
لعل هذه المقارنة توقظ الضمائر وتشحذ الهمم لتوحيد الصفوف وبناء دولة يمنية تعيد للوطن مكانته وتنهي معاناة شعبه. فهل سيقبل اليمنيون هذا التحدي؟ أم سيظلون رهينة المشاريع الصغيرة والخلافات؟ إن غدًا لناظره قريب!
-->