ليلة ميلاد اليمن الجديد

توفيق السامعي
الاربعاء ، ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٤ الساعة ٠٧:٣٤ مساءً

 

يوم من الدهر لم تصنع أشعته 

    شمس الضحى بل صنعناه بأيدينا

 

مثلتِ اليمنُ عبر التاريخ أهمَّ الدول الحضارية للعالم القديم ريادةً وبناءً وتأثيراً في بناءِ الحياةِ الإنسانية، تعلمه الأبجدية الكتابية وتسن له القوانين وتعلمه الشورى والديموقراطيةَ والتجارة والنهضة بكل مجالاتِها السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعية، فكانت نوراَ على نور يَشِعُّ بضيائه على العالمِ أجمع، حتى شهدتْ نكسةً حضاريةً كبيرةً لم يشهدها أيُّ بلدٍ آخر بفعلِ المشروعِ السلالي الكهنوتي الثيوقراطي الذي جاء بنزعةٍ عنصريةٍ مقيتة، يقول للشعب أنا ربكم الأعلى يقرر من يحيا ومن يموت ومن يتعلم، فسفكَ الدماءَ ودمرَ المدن والقرى وشردَ السكانَ ونهبَ الأموالَ ونشرَ المجاعاتِ والأوبئةَ والضلالَ والظلامَ، ولم يدخر وُسعاً ولا طريقةً إلا واستخدمها في سبيل استعباد اليمن وإذلالِه.

حاول اليمنيون عبر قرونٍ كثيرةٍ انتشالَ وطنِهم من ظلماتِ الجهلِ والتخلفِ والفقرِ والمرض التي فرضتها الإمامة، وسلكوا كلَّ السبلِ لإحياءِ الدورِ الريادي والحضاري لليمن والعمل على نهضتِه من جديد، إلا أن كلَّ محاولاتِهم باءت بالفشل لاستحكام القبضةِ الإرهابية الإمامية بقتلِ الشعبِ أحياناً والتشريد أحياناً أخرى، وبفرضِ المجاعاتِ المختلفة عليه واتخاذِ سياسةِ الفتن بين أبنائه ومكوناتِه القبلية والعشائرية، حتى لم يَجدِ اليمنيُ حبةَ دواءٍ تعالجه أو مدرسةً يتعلم فيها أو لقمةَ عيشٍ تقيم صلبَه، أو ذرةً من حريةٍ أو كرامة، مَثَّل كل ذلك دافعاً للثورة على ذلك الحكم المستبد والمتسلط والخروج من ظلمات الرقِّ والاستعباد إلى نورِ الحرية والعدالة.

سبقت ثورةَ السادسِ والعشرين من سبتمبر عدةُ انتفاضاتٍ، لكنها كانت قبليةً غيرَ جامعةٍ ولا مُؤتلفة، بسبب عدم التواصل والتنسيق بينها، وعدم وجودِ لها كيانٍ منظَّمٍ ولا رأسَ قائدٍ يتقدم الصفوف ويقتحمُ الصعابَ والمخاطرَ والأهوال، ولا مشروعٍ منير. 

 

استمرتِ الإمامةُ في تغذيةِ الشقاقات والاختلافات بين القبائل اليمنية إلى حدِّ تحريضِ بعضِها على بعض وليستنزفَ بعضُها بعضا، وتتدخل الإمامة للصلح في نهاية المطاف لضمها إلى ولايةِ (أمير المؤمنين) حسبما كان يُطلقُ على الإمامِ من توصيف، وتُدْخِلَها في دهاليزِ الظلامِ القاتمةِ والعبوديةِ المُذِلة، ومضت تقطفُ كلَّ رأسٍ يونَعُ في الظهور، ورمت بالرَّزِيّة كلَّ عالِمٍ ومُتَنَور، حتى لا يخرج من عباءتِها ويقودُ إلى مشروعٍ ثائرٍ وبديل. 

 

حينما وجد اليمنيون أولَ شرارةٍ لمشروعٍ مُنظَّمٍ في الثورةِ الدستورية في فبراير عامَ ٤٨ فُتحتِ الأبوابُ أمامَهم، وخُلق الأملُ من رحمِ المعاناة ومحاولاتِ النهوض السابقة، فبُذِرَت بِذرةُ الثورة، وأنبتت غِراساً في محاولات الثلايا عام ٥٦، وبدأت الشجرةُ بالنموِّ الكبير. 

 

شهدتِ اليمنُ تمرداتٍ مختلفةً للقبائلِ المسلحة عقب انتفاضةِ الثلايا عام 56 أرهقتِ الإمامةَ وأصابتها بالترهلِ والعجز والخَوَرْ، وبدأ اليمنيون بالتكتل والتحزُّبِ ومعرفةِ التنويرِ الحديث، وأقيمت بعضُ الاحتجاجات، وخرجت بعضُ المظاهرات الخفيفة في صنعاء وتعز، وغَدا الأنينُ الذي كان يخفيه اليمنيون سراً صيحاتٍ ثائرةً وبراكينَ متقدةً غاضبة أفضت إلى اغتيالِ رأسِ الإرهابِ الأول وزعيمِ الشر والكهنوتِ العنصري أحمد حميد الدين في مستشفى العلفي بالحديدة في السادس من مارس عام واحد وستين. 

لم تكن تلك الرصاصاتُ موجهةً إلى صدرِ الإمامِ بشحمه ولحمه، بل كانت قاتلةً لكهنوتٍ ظل جاثماً على صدرِ اليمنِ أكثرَ من ألفِ عام. 

بدأت حصونُ الإمامةِ الفكرية والسياسية والاجتماعية بالتساقط، وأوراقُها بالتناثر، وحل شتاءٌ قارسٌ عليها، وبدأتِ الصراعاتُ الأسريةُ الداخلية التي استغلها الضباطُ الأحرار للتكتلِ ورصِ الصفوف، وتنظيمِ الخُطى وتَخليقِ المشروعِ التنويري، ووثبوا وُثوبَ الأسود لينقَضُّوا على قصرِ البشائرِ ثائرين، وليفوتوا الفرصةَ على الإمام الغِرِّ المرتبِك، ويدكوا معاقلَه في ثورةِ براكينِ الغضب الهادرة والثائرة ليلةَ السادسِ والعشرينَ من سبتمبر، يتقدمهم أولُ فدائيي الثورة النقيب حسين السكري الذي أوكلت له مهمة اغتيال البدر في قصر البشائر بعد اجتماعه بحكومته، وأن يكونَ هو صاحبُ الإشارة والشرارةِ الأولى لتفجير الثورة، ما إن يسمعِ الثوارُ صوتَ رصاصاتِه في القصر حتى تدك الدبابات ذلك القصر بمن فيه، لكن سلاحَه خذله في أحرج اللحظات وقت التنفيذ، ثم كان الفدائي الآخر الملازم محمد الشراعي صاحب الدبابة والطلقة الأولى، ثم بمدفعه الذي احترق فيه مع ثائرَينِ آخَرَين بعد أن خذلته دبابته.

لم يكن سهلاً بناءُ تنظيمِ الضباط الأحرار وبروزُهم كمعارضين للإمامة، ناهيك عن القيام بثورة مسلحة، وهم كانوا يرون رؤيا العين مصيرَ الثوار السابقين وهي تقطع أعناقُهم كمنظرِ إرهابٍ تنخلعُ له قلوبُ الشجعان ويُحْجِمُ عن الثورةِ كلُّ مغوار، لكن هؤلاء الضباط رأوا مشيخَ الإمامة ونضجَ الظروف وتغيرَ موازينِ القوى وتذمرَ الشعب فباعوا أنفسَهم لله والوطن، وغدوا فدائيينَ حقيقيينَ للوطن افتدوا بأرواحِهم ومُهَجِهِمُ الوطنَ والشعب، وحملوا أكفانَهم وأرواحَهُم على أكُفِّهِم لينطلقوا ثائرين لا تشدُّهم إلى الوراء نزعاتُ اليأسِ ولا حبُّ الحياة، ولا دموعُ البنين والأمهات والزوجات وأرحامٌ يخشونَ عليهمُ الفاقةَ وأحزانَ المصير، ولا الحسابات الضيقة، فقد كان خلاص اليمن في عيونهم فوق كل حساب.

إلتحمتْ صفوفُ الأحرارِ المدنيين وزعماءَ الثورة الأوائل الزبيري والنعمان الأب والإبن والأخ، والقاضي الإرياني والموشكي وعبدالغني مطهر وعبدالسلام صبرة الذين مثلوا المشروع التنويري النضالي ليلحقَ بهم ويقطفُ ثمارَ نضالِ الجميع الضباطُ الأحرار الفدائيون.

وصل الثوار المؤسسون إلى نتيجةٍ وغاية، أنه آن لليل أن ينجلي، وآن للفجر أن يَنْبَلِج، وأنه قد حصحصَ الحقُ وزهقَ الباطل، ولا بد من اقتحامِ العقبةِ وتفجيرِ الثورة بكل استماتةٍ وتضحية، وأن لا عودةَ عن ذلك ولا ترددَ ولا نُكوص، وأن يبيعوا أنفسهم لله من أجلِ الوطنِ والشعب، وأن القضيةَ أصبحت مسألةَ حياةٍ أو ممات ليحرروه من أغلاله، وليولدَ اليمنُ الجديد.

سبعُ دباباتٍ من طراز تي 34 كانت صانعاتِ المعجزة الخالدة أحاطت بقصرِ البشائر من كل اتجاه ليلةَ السادسِ والعشرين من سبتمبر، وكانت قذائفُها تبددُ سكونَ الليل الهازِع، وبوارِقُها تبعثرُ الظلامَ الدامس وتحوله إلى فجرِ الحرية والنور فكان نوراً على نور، ليسلبَ اليمنيون الدُّجى فجرَه المختبي.

شكل كُمونُ السلالِ حتى آخرِ لحظةٍ من ساعةِ الصفر عاملاً حاسماً لنجاح الثورة وتزويدِ الثوار بالأسلحة والذخائر، التي كانت أساسَ نجاحِ الثورة في إيجادِ السلاح وخذلانِ رأسِ الكهنوت بِسَلبِه أهمَّ أسلحته ومعاقلِ السلاح المتمثلِ في مخازنِ قصرِ السلاح بكل ما يحتويه من أسلحة وذخائر متنوعة وأغذيةِ جيشِ الكهنوت، حيث وجه أمرَه إلى حاميةِ قصرِ السلاح بفتحِ المخازن تحت توقيعِ أميرِ الحرسِ الخاص لا توقيعَ الرئيس، مما سهل المهمةَ ونجاحَها، فقد كان فوجُ الإمام البدر الذي يقبعُ تحتَ جناحِ السلال هو قواتِ النخبةِ الإمامية تسليحاً وعناصرَ مدرَّبة، وباستمالةِ قائدِه للثورة شُلّت هذه القوة واستُمِيلت بقيةُ القواتِ الموزعةِ حولَ العاصمة صنعاء، والتي كان الثوار يخشون جانبَها كثيراً أن تفكَ الحصارَ عن قصرِ البشائر ويمكن أن تفشلَ الثورة.

لم يكن من السهلِ أبداً وصفَ تلكَ الليلةِ الحاسمة وإيفاؤها حقَّها؛ إذ يقف القلمُ عاجزاً والوصفُ حائراً والإبداع مرتبكاً أمامَها لميلادٍ ظلتْ آلامُه ألفاً ومئتَي عام، حتى صار حقيقةً ماثلةً للعيان. فقد كانت معركةَ الفرقانِ الحقيقيةَ بين الحق والباطل، وبين النور والظلام، بين الحرية والعبودية، بين العلم والجهل، وكانت خالدةً بخلودِ الزمن، ما إن أشرقَ فجرُها حتى أشرق اليمنُ الجديد الذي بدد ظلماتِ البغيِ والطغيان، وأحرقَ خفافيشَ الدجلِ والخداع.

عواملُ مختلفةً شكلت قوةً للثورة، وساعدت على نجاحِها كان أهمّها مراجعةُ التجاربِ السابقة والاستفادةُ منها وعدمُ الوقوعِ فيها، إلى جانب أن الثوارَ وتنظيمَ الضباطِ الأحرار كانوا فِتيةً شباباً تتَّقِدُ فيهمُ العزيمةُ وروحُ التضحيةِ وبسالةُ الشجاعةِ والاستماتةُ ووجودُ مشروعٍ هادٍ يهديهم إلى غاياتِهمُ النبيلةِ وأهدافِهم السامية، وتشكيلُ روحِ الفريق الواحد، وعدمُ وجودِ الخلافاتِ التي هي داءُ الثوراتِ وسُمُومُها، وكذا الإعدادُ الجيدِ والمرتب، وسرعةُ المبادرةِ وحُسنُ التخطيط، وإعدادُ العدةِ ووحدةُ القرارِ والقيادة، والطاعةُ المنضبطةُ للقيادة، والشورى في الرأي، واستثمارُ الخلاف الأسري بين البدر وعمه الحسن والأسرةِ الحاكمة بشكل عام، والأهمُ من ذلك كله عدمُ التردد والأخذُ بزمامِ المبادرةِ والمباغتة قبل أن يصطلحَ الحسن مع ابن أخيه الإمام المُتَوَّجِ لأيام.

مَثَّلَ العاملُ الخارجي والسندُ الإقليمي عاملاً مهماً من عواملِ نجاحِ الثورة؛ إذ مثَّلَ الدعمُ المصري اللا محدود من قِبَلِ الزعيم جمال عبدالناصر للثورة اليمنية أهمَّ عمقٍ وسندٍ خارجيٍ للثورة، على اعتبارِ أن لكل ثورةٍ عُمقاً وتأثيراً خارجياً يمكن أن يسهم بوأدها أو نجاحِها، فتم دعمُ الثورةِ بالسلاح والمقاتلين، ناهيك عن العَلاقاتِ الدولية وسعيِ مصر السريع للاعترافِ بالجمهورية شكَّلَ لها تأثيراً بين الدول الأخرى التي سارعت للاعتراف بها بعد اعتراف مصر.

اتفق تنظيمُ الضباط الأحرار وبقيةُ الثوارِ المدنيين على أن تكونَ تعز هي قائدةُ التغيير وتفجِّرُ شرارةَ الثورةِ فيها وتكونُ صنعاء والحديدة وحجة ظهورَ إسناد لها، على اعتبار أن تعز مقرُّ الإمام وتضم حكومَتَه ونخبتَه العسكرية، إلا أن وفاةَ الإمام يوم التاسع عشر من سبتمبر غيرت كلَّ الترتيباتِ الثورية وقلبتها رأساً على عقب؛ إذ بُويعَ البدرُ إماماً في صنعاء، وكان لتواجدِه في قصرِ البشائرِ الأثرُ البالغُ لقيامِ الثوارِ بإعدادِ خطةٍ بديلةٍ عن تعز والتعجيلِ بتفجيرِ الثورةِ في صنعاء قبل أن يستفحلَ أمرُ الإمامِ البدر ويقومُ بترتيب صفوفه مما يصعِّبُ عملَ الثوارِ ونجاحَ ثورتِهم.

في تمامِ الساعة السابعة من صبيحة يوم السادس والعشرين من سبتمبر بدأ الإرسالُ الإذاعي من إذاعة صنعاء بعد السيطرةِ عليها بإذاعةِ نشيد الله أكبر يابلادي كبري، وبدأ إعلان الثورةِ وتلاوةُ أهدافِها وبيانِها وتدعو بقيةَ اليمنيين للالتحاق بالثورةِ المباركة، ولحقت تعز مباشرةً بالثورة، وقام الضباطُ الأحرارُ بالاستيلاء على العُرْضِي وقصرِ الإمام والتحفظِ على الشخصياتِ المواليةِ للإمام والتي كان يُخشى قيامُها بأعمالٍ مضادةٍ للثورة، وخرجتِ المسيراتُ والمظاهراتُ الجماهيريةُ المؤيدةُ للثورة والوقوفُ معها حتى الموت، وكان لهذه المظاهراتِ وهتافاتِها صدىً كبيراً ووقعاً على نفوس الرجعيين الكهنوتيين تردَعُهم عن التصدي للثورة، وبدأوا يسلمون أنفسهم ويلوذ بعضهم بالفرار إلى الأرياف التي جاؤوا منها للالتحاق بجيش الإمام، وتم إعلان انتصارِ الثورةِ وقيامُ الجمهورية.

تنفس اليمنيون الصُّعَداء، وتحققت أحلامُهم في الخلاص والثورةِ من أعتى حكمٍ عنصريٍ ورجعيٍ شهده العالم؛ أغلقَ اليمنَ في وجهِ العالم وأغلق العالمَ عن اليمنيين، وشهدَ اليمنُ ميلادَه العظيم مجدداً، وتم إحياؤه بعد ممات؛ ففُتحتِ المدارسُ وبُنيتِ المستشفياتُ، وأُنشئتِ الطرقاتُ، وبُنيت المؤسسات، واخْضَرَّتِ الأرضُ بعد جَدْبٍ، وأُعتِقَ اليمنيون وانتزعوا حريتَهم وكسروا أغلال العبودية وصارت سهاماً تنتقم من السجان، ليأخذ دورَه الريادي واللحاقَ بالركبِ الحضاري بين الأمم، وأتمَّ الله نعمتَه على اليمن واليمنيين ولو كره الكارهون.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي