تنامي العشق..وغياب الخطاب

د. محمد شداد
الجمعة ، ٢٦ يوليو ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٤٧ مساءً

 

حضر الرئيس الفرنسي ديجول افتتاح مشروع لتعزيز الهُوية الوطنية همس أحد القائمين على الفعالية معذرة سيدي الرئيس، هناك خطأ لكن بامكاننا تلافيه لاحقاً سأله الرئيس ماهو قال لم نكتب اسم الشاعر "فيكتور هيغو" تحت البيت الشعرية التي نقشت على مدخل المبنى...أطلق الرئيس مقولة صدمت الجميع أنا أوعزت بذلك لأن الذي لا يعرف هذا البيت الشعري لهيغو لا يعتبر فرنسياً!! بمثل هؤلاء رفعت الشعوب هاماتها وأحبت أوطانها..

 

فحب الأوطان إحساس خفي يسري في العروق ، والانتماء الوطني شعورٌ لا يدركه إلا الخُلَّص من أبنائه، من غُرست فيهم قيمه الوطنية ثقافته العميقة، وامتزجت روحه بعبق تاريخه ولون سماواته، إليه يحن مهما بعدت المسافات، يلقى به على الأرصفة إقصاءً يشقى يموت دون أن يموت الوطن في قلبه وحنايا روحه، حب الوطن عندنا شعور فطري ينمو ويكبر وكلما كبرنا وازداد بنا العمر زاد حبه تجذرا، لا شيء يُضاهيه يعيش كالراهب راهب في محراب قلوبنا لا يموت..خلَّد ذلك راهب الوطن مطهر الإرياني بقوله.. 

أيا وطني جعلت هواك دينا...وعشت على شعائره أمينا

ازف اليك من شعري صلاة...ترتل في خشوع القانتينا 

ومن يفخر بمثلك يا بلادي...فما يعنيه لوم اللائمينا

 

ولا يتأتى ذلك العشق إلا عندما تتباهى الأمم برموزها وتزهو بآثارها وحفظ نقوشها، وعندما يتغنى الشعراء بمآثر أسلافهم وصُنَّاع حضارتهم، بيد أن لدى الغالبية مشكلة زرعتها الإمامة السلالية وفقهاء وادي عبقر وفتاوى الاستجمار والعض على الأصابع، وغذتها الصراعات المستمرة والغربة الوطنية، نتيجةً للتورد الفكري واعتناق الأيديولوجيات المستوردة، نُسيت اليمن وذهبت النخب السياسية بعيدًا عن الهم الوطني فلاهي التي أفلحت في تطبيق قيم وإيديلوجيا المستورد، ولا هم الذين أشعلوا نيران الوعي لدى الشعب بأهمية قيم الدولة والجمهورية، منهج وطني محلي يعمل على تعزيز قيم الدولة الحديثة كفضاء جامع يشتغل فيه الجميع دون تمييز..

 

عند تنامي حدة المشكلات في مطلع القرن الواحد والعشرين آمن اليمنيون بالتغييرات السياسية للأنظمة الجامدة التي غيبت الوطن وأصبح التغيير ضرورة، وتصاعدت على إثر ذلك التحديات السياسية والاجتماعية، الإقتصادية الثقافية، أصاب القلق بعض الأحزاب، وبرغم التغير المتسارع وارتفاع منسوب الوعي لدى الشعوب العربية والإسلامية ومنها اليمن، ظلت الخيبات السياسية تسكن في الأنظمة وتهدم أسس الولاء للوطن لأن اليمني بات فيه جائعًا وغريب..

 

وتأثر موضوع الولاء الوطني بشكلٍ حاد نتيجة للغربة الوطنية في مختلف فروع العلوم والحياة الإنسانية، وذلك لعدم توفر الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي إذا ما اهتزت جوانبه أثر سلباً على الشعور بالولاء الوطني الأمر الذي عزز إيمان الناس بضرورة تحصين الأمة ثقافيا ووطنيا، للحفاظ على ما تبقى من الهوية والوطنية وتغذية الروح القومية حتى تُستعاد الذات وتقوى العلاقة بين الأفراد من ناحية وبينهم وبين الأنظمة والوطن..

 

 من ناحيةٍ أخرى غابت اليمن من الخطاب الوطني اليمني الأصيل لكل أولئك حضرت الأممية الاشتراكية والتيارات الإسلامية والقومية العربية، حضرت الايديلوجيات وغابت اليمن من كل منبر صحيفة وخطاب..

 غابت الرمزية التاريخية والشعارات الوطنية وكل ما يشير إلى الأصل والكينونة ويعزز الذات اليمانية والانتماء، غاب الوعل كرمز والعرش السبئيّ كمَعْلَم، والسدود، والبُرد اليمانية والنقوش التاريخية، والسيوف اليمانية، والألوان الشعبية، غاب المسند والحِصن والقصر والتاريخ الممتد لآلاف السنين غابت اليمن برمتها وتبقى مجاذيب السلالة الرؤوس المتحكمة بالقرار ..

 استُفرِغَ الخطاب من التنوع الزراعي من نكهة البن والرمان، والعنب، واللوز، والزبيب اليماني، غاب الجبل الأشم، والساحل الغني، والبحر المتلاطم، والسهل الخصيب، والشلال الدافق، واختزلت الأيديلوجيات الحديثة الطارئة اليمن بأرواحها، وتاه الناس بين برامج سياسية وشعارات فضفاضة لم تغنها ولم تُحصِنها من فكرة عَود الإمامة ..

فكانت النتيجة استغلال الإماميين لزمن الجمهورية وغاصوا في جيوبها، تأبطوا خرافة الحق الإلهي في الحكم، تلفعوا وهم أنهم خزانات العلم وخلفاء الله في الأرض، وأوصياءه على دماء يستحمرون عباده متى ما أرادوا وينتهبون أوالهم كيفما شاءوا، القرآن الناطق هم والحرف الخارق والنشيد الديني والعرائسي القويم هم.. 

ولولا الوطنيين والأناشيد الأيوبية والمعطرية والسنيدارية والحارثية والمرشدية ولولا الشعر واللحن والأغنية والقصائد الوطنية لأجهزت السياسة والمذهبية والسلالية والجهوية على الهوية اليمنية ولغابت اليمن عن المخيال اليمني وعن أرضه تاريخه وفنه..

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي