الرئيسية > محليات > أسرار وخفايا حياة الأخدام في اليمن .. سهرات ليلية ورقص مختلط على وقع الأغاني اللحجية والعدنية - تقرير

أسرار وخفايا حياة الأخدام في اليمن .. سهرات ليلية ورقص مختلط على وقع الأغاني اللحجية والعدنية - تقرير

تعز - محمد القيرعي* :

الأخدام ..إشكالية البقاء والتأقلم والمعرفة

> على الرغم من عدم وجود إحصائيات عددية دقيقة في هذا الشأن .. فإن العدد الإجمالي المتوقع لفئات الأخدام والمهمشين بمختلف فئاتهم وطوائفهم يقترب من حوالي المليون نسمة يتوزعون في أغلب مناطق ومحافظات الجمهورية ..وتعيش قطاعات واسعة منهم في الأرياف خلافاً لأولئك الذين فضلوا الارتحال والعيش على شكل تجمعات بشرية بائسة ومتنقلة ومعزولة في حواف المدن الرئيسية والثانوية.

علماً أن علاقتهم الطبقية ببعضهم البعض لا تكاد تخلو هي الأخرى من بوادر التشرذم والانقسام الفئوي الذي يسود بصفة تاريخية ما بين طبقة الأخدام ..من جهة أولى وهي الطبقة الغالبة من حيث تعداد أفرادها ..وبين طبقات الأحجور والعبيد من جهة أخرى.. رغم أن هذا التفاوت العرقي والفئوي لا يبلغ أبداً حد الاحتدام والتوتر الصدامي بالصورة التي تنشأ عادة بين العشائر والمذاهب المتناحرة في محيط الطبقات السيادية البيضاء في المجتمع (القبائل).

> وتعد الأمية والتخلف الفكري والثقافي والمعرفي من أعقد المشكلات والقضايا الشائكة والمتجذرة في حياة هذه الطبقة على امتداد المشهد الديمغرافي ..الوطني.

ما أسفر عن إبقائهم رهن الفقر والعوز والفاقة نظراً إلى امتهان غالبيتهم العظمى للمهن الوضيعة والمحتقرة مثل الشحاتة بوجوهها المتعددة ومهن الخرازة (حياكة الأحذية) وأعمال الكنس والتنظيف والصرف الصحي بالإضافة إلى أعمال الزراعة الأجيرة في الأرياف بشروطها الاستغلالية القائمة على مبادئ السخرة والأعمال العضلية الشاقة كالحمالة والبناء وغيرها.. الخ

الأمر الذي أسهم إسهاماً تاريخياً ومباشراً ليس فحسب في تعقيد سبل عيشهم وتطورهم الإنساني وتأقلهم المفترض مع المحيط الاجتماعي والوطني من حولهم.. الخ بقدر ما أدى في الوقت ذاته إلى تعزيز الصورة النمطية السلبية المرسومة لهذه الفئات في صميم الوعي الاجتماعي .. وبالشكل الذي أسهم على المدى الزمني الطويل في تعزيز وتوسيع قاعدة الرفض المجتمعي للأخدام وتكريس عزلتهم التاريخية على قاعدة النبذ والإقصاء المجتمعي والإنكار الكلي للشخصية الإنسانية.

بحيث باتت حياتهم خالية حتى من أحلام الحرية التي يتوقون لها على غرار الشعوب والطبقات المضطهدة التي نالت حظوظها في الحرية كما هو حال مجتمع جنوب أفريقيا التي نالها في العام 1992م .. بعد 78عاماً من العبودية التي كرست آنذاك بشكل رسمي وفق قوانين عام 1910م التي نشأ على ضوئها نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد)..؟ أو كأقراننا من زنوج أميركا الذين يتبوأون اليوم وفي ظل أوباما عرش قيادة العالم الحر والمتحضر ..بالإضافة إلى زنوج جمهورية كوبا الاشتراكية في أميركا اللاتينية الذين يستحمون بفضل الرفيق (فيدل كاسترو) بعرق النبيذ ويتدثرون بأجساد البيضاوات ..أي القبيليات ..بالمفهوم البلدي ويتبولون بحرية على حواف أسطبلات القبائل دون أن يتجرأ أحد على منعهم أو اعتراض سبيلهم.

الحظوظ المعيشية ..القيمة المستحيلة

> تختلف طرق عيش المجموعات القاطنة في الأرياف عن تلك التي يحياها أقرانهم من أخدام المدن .. فالحرية النسبية التي يتمتع بها أخدام ومهمشو المدن تعد من النعم القليلة المفقودة بالنسبة لمهمشي الأرياف الذين يرزحون تحت طائلة قهر القبائل والموروثات الدونية معاً.

وخصوصاً فيما يتعلق بمظاهر الاستغلال المهني المشاعي واسع النطاق الذي يمارس ضد الأخدام في سياق العلاقات العرقية المختلة وغير المتكافئة.

ولعل الإمعان بموضوعية في طبيعة المهن اللصيقة بمهمشي الأرياف وشروطها اللاإنسانية تعطينا لمحة تفصيلية عن مضمونها الكارثي المنافي لأبسط شروط العلاقات الإنسانية المفترضة.

> فالمهن اللصيقة بفئات الأخدام على اختلاف مسمياتهم ومناطق سكنهم وتواجدهم تكاد تكون محصورة ومفصلة أصلاً لتأمين رفاهية المشائخ والقبائل والقوى الاجتماعية السيادية البيضاء دون استثناء وضمان أمنهم المعيشي وزيادة ثرواتهم المكتسبة على حساب الحقوق والأماني الطبقية المغتالة للأخدام.

وتتنوع هذه المهن ما بين تلك المجموعات المناطة بشكل تلقائي بخدمة البيوتات الاجتماعية الكبيرة في الأعراس والمآتم والحفلات على السواء واحيائها بالرقص والأغاني الشعبية المسمى (بالشرح) والمعزوفة على إيقاع الطبول والمرافع التي تعد من المعالم الأساسية التاريخية الدالة على الهوية العرقية للأخدام.

وبين المجموعات العاملة في القطاع الزراعي الإنتاجي.. أو من يسمون مجازاً بالأجراء الزراعيين الذين يعملون غالباً لدى ملاك الإقطاعيات الزراعية الكبيرة وفق شروط وقوانين السخرة التي تجبر العمال الأخدام وفي ظل افتقارهم التام للحماية القانونية والدستورية على القيام بكل مهام العمل الزراعي من حرث وسقي ورعاية وحصاد ..مقابل حصولهم على ما بين 15=20% فقط من حجم المحصول الذي يؤول في نهاية المطاف لصالح مالك الأرض (القبيلي) طبعاً الذي يعيش حالة استرخاء دائمة وعندما يجوع يأكل بحد سيفه ..لا بعرق جبينه.

وويل ثم ويل للخادم الذي يفكر حتى مجرد التفكير فقط برفض ذلك الواقع الاستعبادي القائم أو التمرد عليه ..لأن ذلك معناه التمرد على المشيئة التي اصطفت أبناءها القبائل من دون الأخدام حسب تصوراتهم الافتراضية الموغلة في التخلف والوثنية الفكرية والثقافية.

وذلك قياساً بأخدام المدن الذين يحظون بنوع من الحرية الاختيارية فيما يخص طبيعة المهن التي يمارسونها رغم اتسامها في المجمل بالمضمون الدوني التحقيري.

ذلك أن المهن التي يشتغل بها أخدام المدن هي مهن حرة في الواقع وخارج طائلة النفوذ الاعتباري للمجموعات القبلية والمشيخية وغيرها ..مثل عمالة النظافة والصرف الصحي والخرازة ..والأعمال العضلية الشاقة كالحمالة والبناء ..بالإضافة إلى مهنة الشحاتة التي تعد القاسم المشترك والوحيد ربما بين قاطني المدن والأرياف ..باستثناء أن تلك المهنة تتميز بخاصية فريدة بالنسبة لأخدام المدن ..تتمثل بظاهرة تعدد الزوجات التي تندرج بالنسبة لأخدام المدن ضمن استراتيجية تنويع مصادر الرزق ..حيث يشكل كل يوم خميس من كل أسبوع يوماً ذهبياً في هذا المضمار وفرصة للتسابق بين الزوجات في الشوارع الرئيسية والثانوية وعلى أبواب المحال التجارية والأسواق العامة والشركات لجمع أكبر عدد ممكن من القطع المعدنية الشحيحة (الريالات) التي لم تعد تساوي في الواقع ثمن صكها بالإضافة إلى رزم القات وقطع الخبز الجافة والأرز المنوع في سبيل الفوز بحظوة الزوج النائم والمنتظر في عتبة البيت والذي يمنح الزوجة الفائزة في سباق الخميس حق احتكار فراش الزوجية لتلك الليلة علها تحظى بجنين آخر يضاف إلى أشقائه وأقرانه في رحلة البحث والعذاب اليومي عن فرص العيش الشحيحة وسط متاهات الفوضى والعبودية والإقصاء.

الحب وليالي الفرح المخدماني

> لا شيء أكثر إثارة وتشويقاً في حياة الأخدام الداخلية من لحظات الأنس والفرح المخدماني المتجدد على إيقاع العزلة، فالأخدام مفتونون بطبعهم بمفردات اللذة والفرح الجماعي حتى وإن كانت مصطنعة.

فالحب وجلسات الفرح الليلي المختلط ..تعد من الملامح الأساسية الدالة على خصوصيتهم الثقافية والعرقية تلك .. وولعهم اللامتناهي بنفض غبار العزلة ..وكأنه انتصار لشيء مقدس في حياتهم الضائعة.

فإذا ما صودف يوماً وخضت حواراً ودياً وصريحاً مع أحد المهمشين ..شاباً كان أو كهلاً ..ذكراً كان أو أنثى ..فستجد أن السمة الغالبة لحواره معك تتمحور فقط حول الحب ...فلا شيء أكثر سمواً وقدسية في حياة الأخدام من أبجديات الغرام العاطفي الذي يتعدى حدود الاكثراث الاجتماعي التقليدي ..ليشكل نوعاً من الخلاص الروحي من أسر الدونية.

> ولهذا فلا عجب أن تصادف أحياناً فتياناً وفتيات سود لا يتعدى عمر الواحد منهم سن الرابعة عشرة ..وقد غمرته العلاقات والمشاعر العاطفية إلى حد الثمالة وكأنها أحد الأسرار اللصيقة بنشأته البائسة والمعذبة.

> كما أن للحب أيضاً في حياة الأخدام قصصه وطرقه ووسائله وشعائره الخاصة النابعة من وسط بؤسهم وشقائهم وجهلهم وعزلتهم المطبقة والتي لا يمكن فك طلاسمها رغم بساطته الظاهرة ..ليس فقط لكونه ..أي الحب .. كظاهرة إنسانية خالٍ من الزيف ومن الافتراضات البطولية وملاحم التضحية والرتوش المصطنعة والقصائد الكلاسيكية وغيره وإنما لكونه ينشأ عادة من عمق البساطة التي تتسم بها حياتهم، فهو ـ أي الحب ـ لا يحتاج في الواقع سوى للقاء عابر يجمع بين طرفيه .. وهو ما يحدث غالباً وسط لحظات الفراغ المقتنصة خلسة خلال ساعات العمل الليلي أو الصباحي في كنس شوارع المدن التي عادة ما تكون هي الجامع الحقيقي لطرفي العلاقة الغرامية الناشئة هكذا فجأة ..حتى إذا ما تطلب الأمر صقلها ..فبوسائل أقل بساطة وبدائية لا تتعدى في الواقع حدود مبادرة أحد طرفي العلاقة بإهداء الآخر رسمة بدائية وبسيطة في قطعة ورق أو كرتون مقوى متسخة لقلب مذبوح ونازف على سنة رمح مغروز تكون كافية للتعبير عن عمق وصلابة المشاعر المتقدة في أعماقه تجاه حبيبه أو محبوبته ..ولتصبح بعد ذلك ـ أي تلك الرسمة ـ عنواناً أو مقدمة موضوعية لملحمة قادمة بين قلبين قدر لهما افتراش الثرى في الحياة وفي الممات.. وما ينطبق على الحب ينطبق أيضاً على لحظات الفرح المخدماني المتجدد على إيقاع الدونية.

فسمرات الأخدام الليلية والمتواترة غالباً وسط صخب حلقات القات والرقص الجماعي والمختلط على وقع الأغاني العدنية واللحجية الصاخبة .. والمحرمة في ذات الوقت على ذوي البشرة البيضاء والملونة (القبائل).. لها طقوسها وشعائرها الخاصة ولها لونها الممزوج أيضاً بطعم الحاجة ووجعها وبطفح العزلة والدونية وبشقاء يوم مضى وغد آتٍ رغم خلوهما معاً من أية إيحاءات بالأمل المنتظر الذي غالباً ما يزول بانتهاء ميعاد السمر الليلي الذي يتوقف عادة مع تباشير الثلث الأخير من كل ليلة بحيث يتراءى للناظر وكأن مظاهر الفرح الليلي تلك قد ولت دون عودة.

وذلك رغم ما تتخلل تلك السهرات الليلية من نوادر ومشاحنات ومشاجرات قد تنشب فجأة وتنتهي بنفس الطريقة التي نشبت بها ولأسباب لا تستحق أحياناً حتى مجرد الالتفات لها ..لكنها تصبح ضرورية للتنفيس عن مكنونات الغضب العرقي المكبوت جراء بواعث العزل والاستبداد الرسمي والمجتمعي الطويل.

وأخيراً..

وبما أن موضوع هذا الاستطلاع لم يشمل بطبيعة الحال كل جوانب الحياة اليومية للأخدام بتفاصيلها الداخلية الدقيقة ..إلا أنه يشكل من وجهة نظري فرصة جيدة للتعرف عن كثب عن بعض هموهم ومعاناتهم الحياتية في ظل الاستبداد العرقي التاريخي الذي يطل علينا هذه الأيام بطرق ووسائل ثورية ولاهوتية ..محورها الرئيسي حزب الإصلاح وأطفال الساحات الذين خرجوا بتصور جديد وفريد من نوعه لمستقبل العلاقات العرقية في البلاد مفاده أن (من عامل الخادم يصبح نادم) كنوع من البعث والإحياء المخيف لمضمون الثقافات العنصرية القديمة المحمولة على أكتاف ونظريات قوى اليمين الديني والعشائري الجاثمين اليوم على أنفاس البلاد والأمة بصورة لا توحي بمستقبل وطني آمن ومستقر على المدى الزمني الطويل.

*الرئيس التنفيذي لحركة الأحرار السود في اليمن رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن

المصدر - اليمن السعيد 


الحجر الصحفي في زمن الحوثي