الرئيسية > جولة الفن > رائد الإيماء المسرحي فائق حميصي... سيرة تتحدّى «البذاءة»

رائد الإيماء المسرحي فائق حميصي... سيرة تتحدّى «البذاءة»

" class="main-news-image img

نادراً ما يحكى عن الإيماء المسرحي، أو الإيماء التمثيلي بشكل عام، بعد أن أصبح العالم يعيش في فائض من الثرثرة. لهذا؛ يبدو فائق حميصي، الذي يعدّ رائد المسرح الإيمائي في لبنان، كما عملة نادرة، تستهويك معرفة مكنوناتها.

 

«فهذا المسرح الذي له أصول في كل ثقافة، غالباً ما تعود جذوره في مناهجنا التعليمية، إلى الحضارة اليونانية، لكنه في حقيقة الأمر، له تاريخ عتيق وراسخ في اليابان والصين والهند، وفي ثقافتنا العربية».

 

ويشرح حميصي، أنه هو نفسه بعد تخصصه في فرنسا، وعمله هناك، واطلاعه على المدارس الغربية، بحث عن الإيماء في حركاتنا اليومية، وتعابيرنا باليدين، والوجه، حيث لا نحتاج أحياناً إلى استخدام كلمة واحدة، للتعبير عن غيظنا، أو فرحنا، أو لنوجه تهديداً لشخص يقف أمامنا. وهو ما استخدمه لتأصيل أدائه الإيمائي، ومنحه جذوره المحلية. إضافة إلى ذلك، فقد تعلم حميصي رقص الدبكة، ولعبة السيف والترس، كي يجوّد أداءه الجسدي، ويمنحه هويته، المنغرسة في بيئته المحلية. «وهذا ما أعلّمه لطلابي الذين لا بد أن يتدربوا كما فعلت، كي يكتسبوا لغة إيمائية ذات انتماء لمحيطها».

 

وتتلمذ على يد فائق حميصي، مدرباً، وأستاذاً جامعياً سواء في «جامعة الروح القدس» أو «الجامعة اللبنانية» قبلها، عشرات الممثلين بعضهم احترف التمثيل، وآخرون نالوا شهرة واسعة.

 

 

الإيماء أداة تربوية

 

ما يقدمه هذا الفنان المتعدد الذي اشتغل في التمثيل والإخراج، والتعليم، والكتابة، هو مما يبعث على الإثارة والاهتمام. فهو إلى جانب الأعمال المسرحية والتلفزيونية والإذاعية التي قدمها عُني بشكل خاص في الإسهام بجعل المسرح جزءاً من التربية، ليس في لبنان فحسب، بل عربياً أيضاً. وقد تحدث حميصي عن مساره، وتجربته ورؤيته لدور المسرح الإيمائي في ندوة عُقدت في «محترف سميح زعتر» في زغرتا، عادّاً أنه لم يكافح من أجل أن يجعل التلامذة يمثلون على مسرح، بل أن يجعل للمسرح دوراً في تنشئتهم، وتوجيههم، والإسهام في فتح الأفق أمامهم. إذ بمقدور المسرح أن يكون أداة خصبة، ليس بالضرورة في التعليم كما يحلو للبعض أن يقول وإنما في التربية، التي هي أوسع وأشمل.

 

وفائق حميصي كان له دور محوري في وضع منهج لبناني مسرحي تربوي، كما عمل مع «الهيئة العربية للمسرح» في الشارقة، لوضع الأسس لمنهج مسرحي مدرسي، يبدأ من الصف الأول. وإضافة إلى وضع دليل للمعلم، يشارك الآن حميصي في وضع دليل للأهل، كي يصبحوا على دراية، بما يتم تعليمه لأولادهم.

 

وللتمثيل الإيمائي قبل شارلي شابلن الذي نال شهرة عالمية بفضل انتشار السينما، مسار طويل يتحدث عنه حميصي بشغف؛ لأنه تتبعه وخبر جزءاً منه، كي يصل إلى مرحلة التأصيل.

 

 

دونية الفنانين

 

فقد عرفت الحضارة اليونانية المساخر التي كانت تقدم في الشارع، في مقابل عروض النبلاء التي كان مكانها القصور، ورغم السخرية التي كان يمارسها هؤلاء لم تمنع عروضهم، في البدء، وتركوا للهوهم. لكن هذا لم يسر طوال الوقت. فقد تعرض أصحاب العروض الإيمائية للاضطهاد، ليس فقط في عهد اليونان، ولكن خلال مراحل تاريخية عدّة. والعرب الذين يعنى بهم حميصي بشكل خاص، كان لهم باعهم، خاصة عروض السماجة. ويعتقد حميصي أن أشعب الذين نتناول نوادره، ونحب قصصه، حسب نص في كتاب «الأغاني» للأصفهاني كان أحد هؤلاء الذين أضحكوا الناس بأدائهم، بل كان ثمة منافسة بين هذا النوع من المؤدين، للتنافس على من بمقدوره منهم أن يضحك الجمهور أكثر. لكن في عصر المعتمد صدر قرار يقضي بمنع عروض السماجة، وإحراقهم كما إحراق صورهم.

 

النظرة الدونية للممثل الإيمائي أو حتى المسرحي، بقيت لفترة طويلة هي الغالبة، وحتى العصر الحديث. حين منحت جائزة نوبل للمسرحي الإيطالي داريو فو، ثمة من استهزأ بخيار اللجنة ورأى أنها أعطت جائزتها القيّمة لمهرج، وهي بمكانتها يجب ألا تمنح لـ«بذيئين». و«البذاءة» ليست صفة حديثة الاستخدام، فقد شاعت للكلام عن المسرحيين وارتبطت بهم، وكانت قرينة قرارات منعهم وقمعهم، لا، بل وحرقهم أحياء.

 

وولد السيرك من رحم هذه العروض الإيمائية والهزلية التي قمعت، ووجد مؤدوها مبتغاهم في مجال آخر أكثر أمناً. لكن الأمر تغير بعد ذلك وظهرت أسماء شكّلت مدارس في عالم الإيماء، ففي نهاية القرن التاسع عشر، برز غوستاف دو بورو، ومن ثم ظهر الفرنسي إتيان ديكرو الذي نظّر لما عرف «مدرسة الصمت».

 

حميصي مع مارسو

 

وبرز الممثل الشهير مارسيل مارسو الذي قصده فائق حميصي ليتتلمذ على يديه في فرنسا، بعد أن قدم أول عمل له في بيروت بعنوان: «فدعوس يكتشف بيروت»، من إخراج موريس معلوف على «مسرح كولبنكيان». ورأى أن هذه أول مسرحية إيمائية تقدَّم بمستوى احترافي في الوطن العربي، ومثّلت لبنان في مهرجان دمشق للفنون المسرحية سنة 1972.

 

في فرنسا، عمل حميصي مع فرقة مسرحية، بقصد الاستمرار معها، لكنه وجد نفسه يعود إلى بيروت، لاستطلاع الأحوال، وتشاء الصدف أن يلتقي زياد الرحباني، ويقدم معه مسرحية «بالنسبة لبكرا شو». شارك حميصي في مسرحيّات لبنانيّة، من بينها «الرّبيع السّابع» مع الأخوين رحباني، و«صيف 840» لمنصور الرحباني، وفي جعبته الكثير من المسرحيات، من بينها «الحاج متى راح يموت»، «قصر الشوق» و«الحدث». هو ممثل ومخرج، ومغنٍ وعمل في الرقص، وشارك مع ماجدة الرومي في عرض «للحب سلام» في بيروت، الذي قدّم في «مهرجانات جونية»، عام 2011. وكذلك قدم عرض «كلّ هذا الإيماء» على مسرحي «بيروت» و«مونو»، وهي من بين الأعمال الكثيرة التي كان له فضل وضعها على الخشبة.

 

 

صلاح تيزاني وكوميديا دي لارتي

 

تاريخياً، لم ينظر إلى الممثل كشخص يمثل مهنة محترمة، يعتدّ بها. وقد عانى فائق حميصي نفسه، من رغبة عائلته بأن يدرس الطب، فاضطر إلى أن يدخل دار المعلمين كي يحصل على مكافأة شهرية يستطيع من خلالها الاعتماد على نفسه، والبدء بدراسة التمثيل، كما يحلو له. فهو من صغره حين كان مع «الكشاف الجرّاح»، استهوته العروض الصامتة التي كان يقدمها صلاح تيزاني (أبو سليم) وعبد الله الحمصي (أسعد). ويشرح حميصي أن أبو سليم الذي صارت له فرقة اشتهرت مسرحياً وتلفزيونياً بعد ذلك. ويرى حميصي أن «صلاح تيزاني، على ما يبدو عليه ظاهرياً من بساطة، صاحب معرفة واطلاع. ولا بد أنه تأثر بكوميديا دي لارتي في رسمه للكاريكاتيرات. فقد كان يسافر إلى أوروبا يوم كان رئيساً لنقابة النجارين، قبل أن يصبح ممثلاً مشهوراً، ومن الطبيعي أنه كان يسعى أثناء رحلاته لمعرفة ما كان يقدمه الفنانون هناك». فائق حميصي نفسه، المولود عام 1946 في طرابلس، عشق العروض الصامتة والمسرحية صغيراً، بدأ محاولاته الفنية الأولى مع الكشافة، وعلى سطح موقف سيارات قرب منزله في طرابلس، حيث يتجمع أطفال الحي، وتشتغل الموسيقى، وينطلق الممثل الصغير محاولاً إضحاك جمهوره الأول. وكان يسمي ما يقدمه «النكتة الخرساء».


الحجر الصحفي في زمن الحوثي