عاش اليمنيون خلال سنوات طويلة أثناء فترة الحكم الإمامي (المملكة المتوكلية) في شمال اليمن، ظلمًا وجهلًا واستعبادًا، ولم تكن المرأة اليمنية حينها بمنأى عن كل ذلك، فقد طالها ما طال أخاها الرجل، وأسوأ. وبالرغم من أن المجتمع حينها كان متهالكًا ومسلوب الإرادة، إلا أن هناك نساء كُثرًا قاومن ووقفن بوجه “العُكفي” عسكري الإمامـ في مناطق متفرقة من اليمن.
لم نقرأ ونعلم بشكل كبير عن قصص النساء اللاتي قارعن عساكر الإمام، إلا أن تلك القصص محفوظة بذاكرة النساء والرجال الذين عاصروا عهد الإمام، وشهدوا تلك المرحلة وتلك الأحداث التي وقعت بين النساء وعساكر الإمام، ووقوف المرأة اليمنية بكل بسالة وشجاعة للتصدي للتصرفات المهينة والهمجية من قبل عساكر الإمام.
ثورة امرأة قبل الثورة
تحفة سعيد، هي أول امرأة تقود مسيرة راجلة، رافضة رفضًا قطعيًا أوامر الإمام أحمد، وقد كان هذا أول تمرد على مستوى اليمن تقوده امرأة ضد حكم الإمامة. بدأت القصة حينما رفضت تحفة الخضوع للإتاوات التي كانت تفرض على الرعية، والاستيلاء على أرضها، وعزمت على الانطلاق بمسيرة سلمية راجلة من قريتها في منطقة شرعب شمال مدينة تعز، وصولًا إلى قصر الإمام قصر “العرضي” شرقي المدينة، قاطعة مسافة 40 كيلومترًا، وأصرت على مقابلة الإمام أحمد، واستجاب لمطالبها بإعادة أرضها وكف الأذى عن الناس من قبل مندوب الإمام، بشرط بقائه في المنطقة، وبعد فترة عاد مندوب الإمام في التعنت واضطهاد الناس، ما دفع تُحفة حينها لطرده من القرية، وعندما وصل الأمر إلى الإمام أرسل في طلبها، متوعدًا لها برسالة حملت وعيدًا لها بكف الأذى عن عساكره، وإلا فإنها الحرب، وكانت رسالته المشهورة: “يا شرعبية خلي الأذية، صوت المدافع بالجحملية”، معبرًا عن تهديده ووعيده، وبهذا كانت تحفة أول غضب في وجه الإمام.
يتحدث محمد سعيد الشرعبي ـحفيد تُحفةـ لـ”المشاهد”، قائلًا: “عاشت جدتي تحفة طول حياتها قوية الإرادة، وشخصية مهابة تعتز بمواقفها المناهضة للظلم في قريتها “حُبل” عزلة العسيلة مديرية شرعب السلام، حتى وافتها المنية، ورحلت عن الدنيا يوم 29 ديسمبر 1994″.
يصف محمد شخصية جدته تُحفة على أنها كانت هادئة الطباع، لكنها في الوقت ذاته شجاعة لا ترضى بالظلم أبدًا، “ما دفع جدتي لمقارعة عساكر الإمام هو عدم صبرها على الباطل، وكانت لا تخشى أحدًا حتى الإمام بذاته، وحتى بعد الثورة وقيام الجمهورية، تحلت بنفس الشجاعة، كانت من عادتها أنها لا تحب الجلسات النسائية، وتبقى لوحدها، أو تعمل في أوديتها والمزارع، وتشرف على العمال، كما أنها كانت مهابة بين أهلها وجيرانها، ولا تخشى قول كلمة الحق مع أي شخص”.
رفض الانصياع
تُحفة هي الشخصية التي عُرفت بمقارعة عساكر الإمام، ولكن هناك قصصًا لنساء كُثر واجهن أيضًا عُكفي الإمام، ووقفن بوجوههم في مناطق مختلفة، رافضات الظلم والانصياع لأوامرهم، ومازال هناك سيدات يتذكرن كل صور الظلم والاستبداد الذي عاشه اليمنيون فترة حكم الإمام، تقول السيدة فاطمة علي (72 عامًا): “في عهد الإمامة لم نعش أحرارًا، خير أرضنا ليس لنا، وجهد أعمالنا، فقد كان الإمام يقاسمنا المحاصيل وخيرات الثروة الحيوانية، لم يكن أحد يستطيع الوقوف بوجهه أو حتى التحدث، وإلا فإن مصيره السجن”.
تضيف الحاجة فاطمة: “أتذكر في أحد الأيام جاء عسكر الإمام إلى منزلنا، كادوا أن يكسروا الباب، لأن والدتي رفضت أن يأخذوا الحبوب التي كانت معنا، وعندما حاولوا الدخول بالقوة، قامت برميهم بالحجارة”.
وتتابع أنها تعلمت من والدتها العزة وعدم الخضوع لأي ظلم، فرغم الظروف التي عاشوها كما تقول في ظل حكم الإمام، إلا أنها كانت لا ترضى بالباطل، ووالدتها كانت تربيتها على عدم التفريط بالحق، حسب تعبيرها
جبهة نسائية
بالرغم من عدم تواجد أغلب الرجال في بعض أرياف الحجرية، بسبب هجرتهم إلى مدينة عدن، ومنها إلى دول أخرى من العالم، عملت النساء على حماية أراضيهن، وقاومن همجية وتسلط عساكر الإمام، فقد كانوا يهجمون على المزارع، ويدخلون البيوت، ما استطاعوا من الأبقار أو الدجاج أو من المقتنيات، وكانت النساء تدافع وتقاوم وترفض تلك المعاملة السيئة من قبل أولئك “العكفة”، بحسب الأستاذة سعاد العبسي، رئيسة اتحاد نساء اليمن سابقًا.
تتحدث العبسي لـ”المشاهد” عن تجربة والدتها في مقارعة عساكر الإمام، قائلة: “كانت تحدثني أمي أنها وبعض قريناتها كن لا يقبلن بالظلم والاستحقار، ولا يقبلن أن يأتي غريب تحت اسم الإمامة ويسلبهن حقهن وممتلكاتهن، وكأنهن جبهة نسائية تشكلت لتقاوم عُكفي الإمام وتصرفاته، حين كانوا يأتون لأخذ الجبايات، وقالت كنا نخبرهم أن يبقوا في أماكنهم، وأخبرناهم إن أردتم الأكل سنطعمكم، أما إذا ستأتون إلى منازلنا ولا يوجد بها رجال، فسنقاومكم”.
وتضيف: “عندما كان يصر عساكر الإمام على الدخول للمنازل، قاومت أمي والنساء في المنطقة العساكر، وتعاركن معهم، وأخذن عليهم الجنابي والسلاح، وبعد تدخل من أبناء وعقال المنطقة بوضع شروط ألا يقترب أي عسكري إلى المنازل، وعليهم أن يأخذوا الجبايات عبر عقال المنطقة، ومن يخل بهذا الشرط ويقترب من أي منزل سيتحمل ما يجري له من نساء المنطقة، حتى أصبح عساكر الإمام يخشون الاقتراب من المنازل، ويذهبون إلى عقال المنطقة”.
كثيرة هي قصص النساء اللاتي قاومن وقارعن عساكر الإمام في عدد من المناطق المختلفة التي كان يسيطر عليها الحكم الإمامي، إلا أن هذه القصص لم تُعرف شخصياتها، ولم تدون وتجمع بصورة واضحة، وتكتب في التاريخ.
تقول العبسي: “استمر حال ونضال النساء اليمنيات، فقد رأينا مقاومة المرأة في كل المنعطفات التاريخية، ولكن للأسف لم يدون تاريخ النساء، ولم تعرف نضالات المرأة، وما يتم تداوله أو معرفته هو نضال السيدة فازعة الحجرية أو نفحة من الحجرية في عهد سعيد التركي أو من يسمى سعيد البريك، وكانت هي شيخة الحجرية، فقاومت وناضلت، وهذا نجده جزءًا بسيطًا وثق، إضافة إلى تحفة حُبل التي قاومت الإمام وجهًا لوجه، وتصدت له في مظاهرة شهيرة”.
وتضيف: “يحزنني أننا لم نجد صورة واضحة لتوثيق مقاومة النساء كفيلم وثائقي أو كتب تجمع قصص ونضال النساء في مقارعة عساكر الإمام، حيث إن التاريخ يخلو من توثيق نضال النساء في شمال اليمن حتى ثورة 26 سبتمبر وما بعدها”.
قصص بالذاكرة الشعبية
من جهته، يوضح أستاذ علم الاجتماع السياسي الدكتور ياسر الصلوي، أن اليمن عاش في فترة الحكم الإمامي، في عزلة سياسية وتخلف، وبسبب هذه العزلة فرض عساكر الإمام سيطرتهم على المناطق، وكانت المقاومة حينها مقاومة فردية، وإن اشتهرت بعض مقاومة النساء لعساكر الإمام، فقد انحصرت في المنطقة الواحدة، وكانت بعض الأسر تخشى من انتشار مقاومتها، حتى لا يجلب عليهم هذا الخبر مزيدًا من الظلم والتعسف، كذلك الظرف الاجتماعي والثقافي حينها كان لا يسمح أو يساعد على توثيق قصص لمقاومة النساء، وظلت حكايات يتناقلها أشخاص من جيل إلى جيل، وبقيت محفوظة بالذاكرة الشعبية فقط، ولكنها لم تحظَ بالكتابة والتوثيق، باستثناء حوادث شهيرة.
ويضيف الصلوي: “كان يتطلب بعد الثورة توثيق قصص النساء اللاتي قارعن عساكر الإمام، من مختلف المناطق اليمنية، وكان لا بد أن تحظى هذه القصص باهتمام جدي من قبل الجهات المعنية، لكن كان الانشغال الأهم هو بالحدث الأعظم، وهو ثورة 26 سبتمبر وإسقاط الإمامة وقيام الجمهورية، فأٌهملت تلك القصص”.
ويشدد على أهمية أن “تقوم الجهات الرسمية والمؤسسات المهتمة برصد هذه القصص عبر من عاصروا تلك الفترة، ومراجعتها من قبل مختصين في علم الاجتماع والتاريخ، وتجميعها في كتب، لاعتبارها جزءًا من التاريخ الاجتماعي لليمنيين”.