الرئيسية > تقارير وحوارات > جرائم الانتحار .. القاتل الخفي الذي تغذيه الحرب في اليمن

جرائم الانتحار .. القاتل الخفي الذي تغذيه الحرب في اليمن

" class="main-news-image img

نال منهم الفقر والتهمهم الجوع جراء تداعيات حرب قذرة ما زالت تغرز أنيابها في جسد وطنهم المنهك، فلم يكن أمام بعضهم سوى اللجوء للموت الاختياري.. الانتحار.

 

لقد أوصلت الحرب المجتمع اليمني لوضع معيشي غاية في السوء عنوانه انقطاع صرف المرتبات الحكومية لمعظم الموظفين وارتفاع الأسعار وتزايد مؤشرات الفقر والبطالة لدرجة صار الانتحار أحد الأسباب الرئيسية للوفاة في اليمن.

 

والمخيف أن أخبار الانتحار في الإعلام المحلي تجاوزت الشباب للمسنين، إذ فوجئنا، الجمعة الماضية 23 ديسمبر/ كانون الأول، بخبر انتحار سيدة مسنة رمت بنفسها من الطابق الخامس في عمارة بمدينة انماء في عدن.

 

من الطبيعي أن يترتب على ارتفاع مؤشرات الفقر والبطالة جراء الحرب المستعرة منذ ثماني سنوات هناك، انكسارات نفسية، لا يتم احتواؤها طبيا في مجتمع مازالت ثقافته في العلاج النفسي متدنية جدًا، علاوة على أن خدمات الصحة العقلية مازالت محدودة للغاية وسيئة أيضًا، وما يتوفر منها يتطلب تكاليف باهظة.

 

ونتيجة لذلك يبقى ما ينشره الإعلام المحلي عن جرائم الانتحار محدودا ويقتصر على حالات الانتحار التي تكون أمام الناس، ويعكس ارتكاب الانتحار أمام الناس ما صار إليه حال المجتمع مع الحياة والموت جراء الحرب، كما تبقى حالات الانتحار في الأرياف بعيدة عن الإعلام ما يجعل واقع جرائم الانتحار أكبر مما يُعلن عنه. كما لا تقتصر جرائم الانتحار على الإقدام على قتل النفس بشكل مباشر، بل كشفت الحرب أنه صار للانتحار وسائل أخرى غير مباشرة، كتعاطي مادة السبرت (مادة مخدرة تستخدم في تركيب العطور والتعقيم)، والتي من عواقب تعاطيها الموت. ونقلت وسائل إعلام محلية، الإثنين، خبرا عن وفاة جماعية لثلاثة شباب تعاطوا مادة السبرت، فيما مازال أربعة آخرون في حالة خطرة.

 

السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يدفع هؤلاء لتعاطي مادة مخدرة لها آثار قاتلة كمادة السبرت؟ الدافع هو رغبتهم في الهروب من الواقع حتى لو كانت النتائج هي الموت. وإقدام سبعة شباب على هذا الفعل يؤشر أن الواقع بات أكثر مأساوية، ويعكس انكساراً في الذات جراء العجز عن الحصول على وسيلة لتحسين الوضع المعيشي، فلا يجد هؤلاء الشباب في ظل نسيج اجتماعي بات مهترئا بسبب الحرب سوى اللجوء إلى الهرب بعيدًا عن واقعهم حتى لو كانت المحصلة الموت. وأمثال هؤلاء تجدهم متأخرين خطوة عن أولئك الذي يتخذون وسيلة مباشرة للانتحار.

 

تختلف وسائل الانتحار، لكن معظم ما نشره الإعلام المحلي ومنصات التواصل الاجتماعي في العام الحالي من جرائم انتحار الشباب اعتمدت الشنق والرمي بالجسد من علو؛ لأن هذه الحوادث تكون أمام الناس ولهذا تجد طريقها للإعلام، كحادثة انتحار طالب بكلية الإعلام في جامعة صنعاء حيث وجده زملاؤه مشنوقا على شجرة في حديقة الجامعة مستهل العام الجاري.

 

وفي هذه الحالة كتب زميل للمنتحر مشيدًا بفعل الانتحار، معتبرًا المنتحرين أحرارا، قائلا “الانتحار أمام الناس ليس أمرا صعبا أو مخيفا للذين أرغمتهم الحياة على الموت الفعلي. هو إرادة بطولية وحرية استثنائية وشجاعة نادرة استحكمت ذاتها، وقرر بطلها الرحيل عن ذاته بصمت، دون أن يطلب الرثاء، أو البكاء عليه، لماذا نبكي على الأحرار؟! ونحن في مأساة تغشى حياتنا وأيامنا، ونحن نخشى ترك حياة لا قيمة لها، حياة عبثية ومملة وكارثية”.

 

لا يقتصر الانتحار على فئة دون أخرى، فالوضع الاقتصادي السيء قد لامس معظم الناس؛ فهذا فنان شعبي في محافظة عمران ينتحر نتيجة تدهور حالته النفسية عقب خروجه من السجن، ومثله شاب شنق نفسه على جدار عمارة في شارع تعز خلال نوفمبر/ تشرين الثاني، ومثله انتحار أحد موظفي الإعلام في أكتوبر/ تشرين الأول، وقبله انتحار مدرس من خلال رمي نفسه من الطابق الأخير في عمارة، وحسب منصات التواصل الاجتماعي فقد انتحر الأخير عقب تهديد مالك البيت بطرد أسرته نتيجة تراكم الإيجارات بالإضافة إلى استدعائه من قبل قسم الشرطة للتعهد بسداد ديوان البقالة خلال شهرين، فلم يكن أمامه سوى الانتحار، وهو يجد أسرته تواجه التشرد والجوع.

 

وتكشف بشاعة واقع الحرب ومعاناة المجتمع بوضوح حادثة أخرى بمدينة ذمار (وسط) حيث أقدم على الانتحار موظف حكومي من خلال إحراق جسده بعد عجزه عن شراء كيلو طحين لأطفاله، وهو يعيش بلا مرتب منذ سنوات جراء توقف صرف المرتبات الحكومية…يقول الروائي محمد الغربي عمران معلقًا على هذه الحادثة “عنوانه حارة هران بذمار، لدية ستة أطفال وزوجة، أشعل النار بجسده أمام أطفاله بسبب عدم حصوله على قيمة كيلو طحين ليأكل (ليُطعم) أولاده نتيجة قطع مرتبه، ولأن عزة نفسة منعته من سؤال الناس انتحر، والمسبب الحقيقي لذلك هي سلطات صنعاء وعدن ..هذه حال اليمن… يا تجار الحرب ومصاصي دماء البشر”.

 

واختزالاً لهذا الواقع بما فيه ما يترتب على الانتحار من لوم اجتماعي، يقول المحاضر في جامعة العلوم والتكنولوجيا بصنعاء، عبد الكريم الوصابي: “حالات الانتحار تزداد في صنعاء وأصحابنا ليس في قاموسهم إلا مبرر واحد.. ضعف الإيمان، وأن المنتحر خبيث النفس وسيدخل النار، أما بقية الأسباب كالفقر والجوع وكذلك الأمراض النفسية الناتجة عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية التي يمر بها المنتحر لا وجود لها في قاموسهم. طيب يا أقوياء الإيمان، يا طيور الجنة، يا ملائكة تمشي على الأرض، ارحموا المنتحر ميتًا طالما لم ترحموه حيًا وراعوا مشاعر أسرته الحزينة”.

 

حتى الفتيات بات لهن نصيب من جرائم الانتحار، لكن الأسباب هي تعرضهن للعنف أو الابتزاز في الغالب، فها هي فتاة (19 سنة) تنتحر في مديرية الصلو بمحافظة تعز (جنوب غرب) في نوفمبر/ تشرين الثاني بسبب تعرضها للابتزاز الإلكتروني، ومثلها تعرضت ناشطة بمدينة تعز للابتزاز الإلكتروني، وأقدمت على الانتحار عبر طلق ناري لكنه اخترق كتفها ليتم إسعافها وإنقاذها.

 

وحسب موقع البنك الدولي وصل معدل الانتحار عام 2019 بين سكان اليمن إلى 5.8 لكل 100 ألف نسمة، وبحسب الجنس وفقًا لمنظمة الصحة العالمية كان أعلى بين الذكور منه بين الإناث بمعدل 7 و 4.6 لكل 100 ألف للذكور والإناث على التوالي.

 

وصل معدل الانتحار عام 2019 بين سكان اليمن إلى 5.8 لكل 100 ألف نسمة، وبحسب الجنس وفقًا لمنظمة الصحة العالمية كان أعلى بين الذكور منه بين الإناث بمعدل 7 و4.6 لكل 100 ألف للذكور والإناث على التوالي

 

كما يعتبر الانتحار أحد الأسباب الرئيسية للوفاة في اليمن حيث بلغ عدد الوفيات المرتبطة بالانتحار 1699 حالة في عام 2020، وهو ما يمثل 1.09 من إجمالي الوفيات في جميع أنحاء البلاد حسب موقع worldlifeexpectancy.

 

وحسب دراسة بعنوان “ضرورة منع الانتحار في اليمن: تحديات وتوصيات- مراسلات” لطارق الأهدل ورمضان عبد المعز نشر خلاصتها موقع ncbi.nlm.nih.gov، تختلف طرق الانتحار بين سكان اليمن من ذكر لأنثى. بينما تستخدم الإناث دائما السموم، فإن الأساليب الشائعة للذكور في الانتحار هي البنادق، يليها الشنق. ووفقًا للدراسة المشار إليها: “هناك العديد من أسباب الانتحار في اليمن، لكن أزمة الحرب تؤثر بشكل مباشر على الصحة العقلية للأفراد. عندما نتحدث عن الحرب، يتعرض الناس للتوتر لفترة طويلة، وهو عامل خطر للاضطرابات النفسية”. “بشكل غير مباشر، قللت النزاعات من الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم، وزادت من انعدام الأمن الغذائي بسبب الانهيار الاقتصادي العام، أو دخل الناس في صراعات بدلاً من التركيز على الأنشطة الزراعية، حيث يعاني نصف السكان اليمنيين حاليا من انعدام الأمن الغذائي. علاوة على ذلك، لا تتمتع الفئات العمرية المختلفة بمستوى كافٍ من الوعي بالصحة النفسية. لذلك، لا يسعون للحصول على خدمات الرعاية الصحية إلا عند الإصابة باضطراب خطير. بالإضافة إلى ذلك، هناك وصمة عار مرتبطة بطلب الدعم النفسي. وبالتالي، لا يفضل الناس الذهاب إلى العيادات، وخاصة الإناث. كما يؤدي نقص دعم الصحة النفسية في المناطق الريفية إلى تفاقم المشكلة”.

 

إن ندرة مقدمي ومتخصصي الصحة النفسية تجعل الوضع أكثر سوءا، إذ بلغ عدد مقدمي الرعاية الصحية المتخصصين 0.2% لكل 100 ألف في اليمن. وهذا يعادل 40 طبيبا نفسيا فقط لأكثر من 30 مليون فرد. جميع العوامل الخارجية السابقة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، تسبب حالات صحية عقلية خفيفة إلى خطيرة مثل الذهان والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). عادة ما تكون محاولة الانتحار ناتجة عن إحدى الحالتين السابقتين أو كلتيهما مثل الذهان الشديد الذي يظهر على شكل هلوسة سمعية تخبر الشخص أن يؤذي نفسه، أو الاكتئاب الذي يؤدي إلى الانتحار، والذي يعتبر السبب الأكثر شيوعًا للانتحار. ومع ذلك، يمكن أن تسهم حالات عقلية أخرى مثل القلق واضطراب ما بعد الصدمة أيضا”.

 

إزاء ذلك تقدم بعض المنظمات الدولية دعما لخدمات الإرشاد النفسي والاجتماعي والصحة العقلية كالدعم المقدم لمؤسسة الإرشاد الاسري والتنمية (FCDF) في صنعاء وعدن. وجدت هذه المؤسسة في عام 2017 أن 20% من اليمنيين يعانون من اضطراب نفسي.

 

“حقيقة مهمة أخرى هي أن 82% من الناس في اليمن يعيشون في فقر، مما يحد من قدرتهم على تلبية الاحتياجات الأساسية، بغض النظر عن الوصول إلى خدمات الصحة النفسية”.

 

وقالت المعالجة النفسية، سعدية العولقي، لـ”القدس العربي”: “إن اليمن يعاني من خدمات نفسية سيئة، وذلك بسبب نقص الوعي بأهمية الرعاية النفسية وأيضا بسبب الوصمة الاجتماعية للطب النفسي”.

 

وأضافت: “كما أن ضعف البنية التحتية لليمن باعتباره من دول العالم الثالث يعد سببا مهما في فقر الخدمات النفسية، والتي وإن وجدت تكون بأسعار باهظة لا يستطيع عليها عامة الناس. كما أننا نفتقر إلى دراسات وإحصائيات نستطيع من خلاها معرفة عدد حالات الانتحار في اليمن قبل وبعد الحرب”.

 

واستطردت: “معظم حالات الانتحار يتم التكتم عليها، ولا يتم معرفة الأسباب التي أدت إلى ارتكابها.. ونستطيع القول إن الحرب زادت الوضع سوءًا في اليمن وتسببت في ظهور العديد من الاضطرابات النفسية الشديدة، التي يمكن أن تكون سببا رئيسيا للانتحار، ومن هذه الاضطرابات الاضطرابات الاكتئابية واضطرابات الشخصية والاضطرابات الذهانية، والتي تؤدي في نسبة منها للانتحار”.

 

وتابعت: “نستطيع القول إن أعداد المنتحرين في تزايد مستمر في ظل هذه الظروف العصيبة وفقر الخدمات النفسية وقلة الدعم النفسي”.

 

وأردفت: “أما عن كيفية وضع حد لحالات الانتحار فهذا يحتاج إلى تضافر الجهود من الجهات المختصة، وذلك عن طريق توفير مراكز خاصة بالرعاية النفسية تغطي جميع المناطق في اليمن وتدريب كوادر قادرة على توفير خدمات نفسية ممتازة ودعم نفسي وذلك للحد من الانتحار”.

 

وطالبت إحدى الدراسات، الحكومة اليمنية، اعتبار جرائم منع الانتحار من الأولويات في سياساتها والعمل على تنفيذ حملات توعوية عبر منصات التواصل الاجتماعي بالعلاج النفسي بموازاة توفير خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي وتأهيل العاملين عليها في عموم البلاد.

 

وحمل ناشطون، الأطراف المتصارعة، مسؤولية تزايد حالات الانتحار، واتهموا أطراف الصراع بإيصال المجتمع إلى حالة من اليأس إثر تردي الاقتصاد وانقطاع المرتبات وانعدام فرص العمل.

 

ويشهد اليمن نزاعا على السلطة منذ تنحي الرئيس السابق علي عبد الله الصالح عن الحكم في 2011 لتدخل الحرب مرحلة جديدة عام 2014 وصولا إلى تدخل تحالف سعودي إماراتي في مارس/آذار عام 2015 إذ استعرت الحرب متسببة في زيادة انعدام الأمن الغذائي لغالبية اليمنيين، وعدم القدرة على الوصول إلى الخدمات الصحية، مما أدى إلى تدهور الصحة العقلية للناس.

 

منذ ثماني سنوات، يواجه اليمن أسوأ أزمة إنسانية، إذ يحتاج أكثر من 80% من السكان إلى المساعدة حسب موقع (ريليف ويب) التابع للأمم المتحدة (أغسطس/آب 2022).

 

 

الموقع بوست


الحجر الصحفي في زمن الحوثي