الرئيسية > تقارير وحوارات > ماهو السر الديني وراء رغبة بوتين للإحتفال بعيد الفصح في كييف ؟

ماهو السر الديني وراء رغبة بوتين للإحتفال بعيد الفصح في كييف ؟

" class="main-news-image img

يرى بعض المؤرخين أن العامل الديني لعب دوراً في قرار الغزو، وهو ما تذهب إليه المؤرخة الأمريكية البارزة ديانا باتلر باس، المختصة بتأريخ المسيحية.

تقول باتلر باس في مقال نشرته قبل أيام إن الغزو الروسي لأوكرانيا الذي نشهده اليوم، ليس إلا فصلاً جديداً من حكاية قديمة، ستكون نهايتها "السعيدة" من وجهة نظر بوتين، الاحتفال بقداس الفصح في كييف.

بدأت تلك القصة مع سقوط الإمبراطورية الرومانية، وما تلاه من تنافس على إرثها السياسي والديني بين الإمبراطوريات التي خلفتها عبر التاريخ.

بحسب المؤرخة فإن كييف تعدّ بالنسبة للمسيحيين الأرثوذكس بمثابة القدس، لذلك فإن الصراع "على أوكرانيا هو أيضاً صراع على أي أرثوذكسية ستطبع وجه شرق أوروبا".

بالنسبة لها، فإن العملية العسكرية التي أعلنها الروس لا تقل أهمية، من وجهة نظرهم، عن "حملة صليبية لاستعادة الأراضي الأرثوذكسية المقدسة من الهراطقة الغربيين".

معمودية الروس الأولى

يعود السبب في ذلك إلى رمزية كبرى تتحلّى بها مدينة كييف في تاريخ المسيحية الأرثوذكسية، إذ أنها لعبت دوراً تأسيسياً، وتعدّ الموطئ الأول للمذهب في الوعي الجمعي الروسي.

يقارن الصحافي والقس البريطاني جيل فرايزر، في مقال نشر على موقع "أن هيرد"، بين فلاديمير بوتين اليوم، وفلاديمير الأول، أمير كييف بين عامي 978 و1015، المسمّى بفلاديمير الكبير.

تختلف الروايات التاريخية حول قصة اعتناق فلاديمير الأول، أمير كييف الروسية، المسيحية، بعدما كان وثنياً. ولكن، يرد في عدد من المراجع أنه كان قد طلب يد الأميرة آنا، شقيقة الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني، لبناء حلف سياسي، وكان شرط الإمبراطور أن يعتنق فلاديمير المسيحية.

ساعد فلاديمير الإمبراطور في قمع متمردين عليه، واحتفالاً بنصره، لم يعتنق المسيحية فحسب، بل جعلها ديانة لشعبه.

وتقول المرويات أنه في طريق عودته إلى كييف، حطّم فلاديمير الأوثان، وقاد معمودية جماعية على نهر دنيبر عام 988 (ينبع النهر من روسيا، ويعبر بيلاروسيا، وأوكرانيا).

ونظراً لأهمية تلك اللحظة المؤسسة في التاريخ الروسي، يرى فرايزر أن بوتين يطمح لاستعادة كييف، "المدينة الأم للأرثوذكسية الروسية"، تذكيراً بأمجاد فلاديمير الكبير.

استقلال الكنيسة الأوكرانية

في هذا السياق، يرى البعض أن أحد العوامل الممهدة للغزو الروسي الراهن، كان انفصال الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية، عام 2018، إذ كانت جزءاً منها منذ عام 1686.

عند إعلان الانفصال قبل سنوات، وصفه الرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشينكو بأنه "انتصارٌ للشعب المؤمن في أوكرانيا على شياطين موسكو". فيما لام بوتين السياسيين الأوكرانيين على "التدخل في شؤون الكنيسة"، وأكد على حق بلاده في حماية "حرية العبادة".

استقلال الكنيسة الأوكرانية أدى إلى انقسام أوسع على مستوى الكنائس الأرثوذكسية، مع إعلان الكنيسة الروسية انفصالها عن العائلة الأرثوذكسية الجامعة، احتجاجاً على دور برثلماوس الأول، بطريرك القسطنطينية المسكوني، في إصدار مرسوم الاعتراف بالكنيسة الجديدة.

وكما هو معروف، لا سلطة لبرثلماوس الأول، ومقره في تركيا، على باقي الكنائس الأرثوذكسية. فصحيح أن هذه الكنائس تنتمي لجسد واحد، إلا أن إدارتها وقياداتها مستقلة عن بعضها البعض. ولا يعدو برثلماوس كونه متقدماً بين متساوين، إذ لا توجد لدى الأرثوذكس والكنائس الشرقية البنية الهرمية الإدارية نفسها الموجودة في الكنيسة الكاثوليكية.

ويقول الكاتب مايكل خوداركوفسكي في "نيويورك تايمز"، إن إعلان الكنيسة الأوكرانية انفصالها عن الكنيسة الروسية، شكّل "ضربة خطيرة لطموحات بوتين والكنيسة الروسية على مستويات عدة، إذ يمثل الأوكرانيون الأرثوذكس 30 بالمئة من مجمل المسيحيين التابعين لبطريرك موسكو. ويعني الانفصال، خسارة ملايين الأتباع، وملايين الدولارات من أملاك الكنيسة".

خلال سنوات حكم بوتين، تنامى دور الكنيسة بشكل ملحوظ. وفي كتاب بحثي بعنوان "القوي وكلي القدرة" صادر عن مركز أبحاث "ثيوس" عام 2017، يقول الباحث بن راين إن العلاقة بين الرئيس الروسي والكنيسة الأرثوذكسية "علاقة حيوية تكافلية غير عادية".

في عهده، سمح بوتين للكنيسة باستعادة صدارتها وقدم لها الدعم كما لم يفعل أي حاكم روسي منذ الثورة البولشيفية. ومن جهتها، مدت الكنيسة الرئيس بالدعم الفكري والثقافي لتوفير أرضية لرؤيته الدولاتية، وتوسيع مجال نفوذ روسيا حول العالم.

وبحسب دراسة أجراها مركز "بيو" الأمريكي للأبحاث، فإنّ المسيحية الأرثوذكسية شهدت نهضة كبرى في أوروبا الشرقية خلال العقدين الماضيين، سواء في روسيا أو في الدول المحيطة لها، حيث يعرّف 70 بالمئة من السكان أنفسهم كأرثوذكس.

وتزامنت تلك النهضة بحسب المركز، مع تنامي المشاعر المؤيدة لروسيا في المنطقة، "كقوة ضرورية لموازنة تأثير الغرب"، وذلك "لأن الهوية الأرثوذكسية مرتبطة بشكل وثيق بالهوية القومية، وبمشاعر الفخر والتفوق الثقافي".

ويكتب خوداركوفسكي أن الصلات بين الكرملين وبطريركية موسكو، قديمة قدم روسيا نفسها. "على امتداد تاريخها، كانت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تابعة للدولة، وداعمة للحكم. ومنذ القرن السادس عشر، عززت الكنيسة الحكام بلاهوت سياسي مبني على فكرة "القدر المتجلي أو المصير الواضح"، الذي يؤكد أن موسكو باتت القدس الثانية وروما الثالثة (بعد روما والقسطنطينية)".

خلال سنوات حكم الاتحاد السوفيتي، تراجع دور الكنيسة لتنهض بعد عقود من الإمحاء خلال التسعينيات. ومنذ تولي بوتين الحكم، اعتمد على الكنيسة كقوة جامعة في البلاد، لتعزيز مكانته كحامٍ للروس.

بحسب راين فإن روسيا لم تشهد منذ عهد القياصرة قائداً مثل بوتين، "يظهر الحاجة والرغبة لاستخدام الكنيسة بطريقة مفيدة لدعم سياساته الداخلية والخارجية"، حتى في عهد بوريس يلتسن، حين أرادت الدولة الروسية التكفير عن ذنوب الحقبة السوفيتية التي قمعت الممارسات الدينية بالكامل.

ويعتقد الباحث أن الكنيسة باتت رمزاً من رموز قوة بوتين، وللدلالة على علاقتهما العضوية، يذكّر بالحركة الاحتجاجية التي نفذتها فرقة "بوسي رايوت" الغنائية داخل كاتدرائية موسكو. ويقول: "من الصعب التفكير بقائد أوروبي علماني آخر، يكون الاعتراض الأشد رمزية ضده، موجهاً من داخل كنيسة".

قلادة الصليب

بحسب موقع مؤسسة "هريتدج" الأمريكية، فإنّ بوتين ينصب نفسه كمدافع عن التقاليد المحافظة وعن مكانة الكنيسة، من خلال خطاب معلن يرفض الطلاق، والمثلية الجنسية، ويشجع قيم الأسرة التقليدية.

ويرى مراقبون أن بوتين، وبغض النظر عن قناعاته الدينية الشخصية، يريد توظيف تلك القيم المسيحية التقليدية، من أجل التأثير السياسي.

ولكن، يعتقد آخرون أن الأمر يعدو كونه أداة وظيفية، إذ يحرص بوتين على إظهار جانب تقيّ ورع في صورته العامة، بالرغم من تكتمه الشديد حول نشأته وحياته الخاصة.

على سبيل المثال، يمتلك بوتين قلادة صليب، لا تفارق رقبته، يقال إنها هدية من والدته يوم عمدته في السرّ مطلع الخمسينيات.

من المرويات حول القلادة أيضاً، أن بوتين برّكها على قبر المسيح، خلال زيارة قام بها لإسرائيل أثناء عمله ضابطاً في الاستخبارات الروسية في التسعينيات. ويقال أيضاً إن الصليب كان من الأغراض القليلة التي نجت من حريق أتى على منزل عائلته.

كل تلك التفاصيل حول الصليب، تبدو منتقاة لتعطيه بعداً أسطورياً، ولتثبيت صورة بوتين كشخصية مؤمنة.

إلى جانب ذلك، تربط بوتين علاقة متينة بالأرشمندريت تيخون شيفكونوف، رئيس دير سترينسكي للرهبان، ويعتقد أنه من أبرز العارفين بسيرة بوتين، لكونه كان لسنوات كاهن الاعتراف الخاص بالرئيس الروسي.

تولى تيخون الإشراف على مشروع المعرض التفاعلي الدائم "روسيا، تاريخي" الذي افتتح في مدينة سانت بطرسبرغ عام 2016.

المعرض الممتد على مساحة شاسعة، يسرد تاريخ روسيا خلال ألف عام، ويحتفي ببطولات العظماء الروس. وفي السياق ذاته، لعب تيخون دوراً في إعادة تسمية مطارات روسيا بأسماء الأبطال العسكريين والعلماء الروس.

الحضارة الروسية المقدسة

يعدّ ذلك من المؤشرات الأساسية على رغبة بوتين في جعل الكنيسة الأرثوذكسية رأس حربة في مشروعه لإعلاء القومية الروسية، وأداة قوية لدعم أيديولوجيته السياسية عن روسيا المقدر لها أن تكون قوة عظمى.

لذلك بذل بوتين جهوداً كبرى في دعم الكنيسة مادياً ومعنوياً وسياسياً، بدءاً من استعادة مقتنيات الكنائس التي بيعت خلال الحقبة الشيوعية، وبناء آلاف الكاتدرائيات، إلى جانب إدراج مادة عن الثقافة الأرثوذكسية في المناهج الدراسية.

يضاف إلى ذلك أن الكنيسة تلعب دوراً مهماً في الجيش الروسي، وقد شوهدت خلال العمليات الأخيرة في أوكرانيا تسجيلات لكنائس متنقلة، ترافق الوحدات العسكرية الروسية، إذ يبارك كاهن الأسلحة أحياناً في ساحات القتال، ويقيم الصلاة مع الجنود.

وللدلالة على العلاقة الوثيقة بين الكنيسة والجيش، شيدت القوات الروسية المسلحة كاتدرائية خاصة بها في موسكو، افتتحت في عام 2020، احتفالاً بالذكرى 75 لانتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية، واحتفاء بمآثر الشعب الروسي العسكرية في الحروب التي خاضها.

من جهته، يبادل بطريرك موسكو كيريل الكرملين والجيش الروسي مشاعر الفخر ذاتها، ويتحدث في أحد خطاباته عن دور الكنيسة في ضمان وحدة الشعوب الروحية في الدول القائمة على أراضي "روسيا التاريخية"، وأهميتها في حماية منظومة "القيم الأرثوذكسية التي تحملها الحضارة الروسية المقدسة للعالم".


الحجر الصحفي في زمن الحوثي