الرئيسية > نوافذ ثقافية > أخبار الصّغار

أخبار الصّغار

" class="main-news-image img

سارعَ إلى النادل وأنا أهُمّ بالجلوس فور وصولي في طرف المقهى:

- معذرة سيدي معذرة... هذه المائدة حجزتها للتوّ سيدة بالداخل معها أطفال...

التفتُّ أتتبع إشارته عبر زجاج نافذة المقهى العريضة لأرى امرأة يحيط بها أربعة أطفال يجذبونها من كل ناحية، ويشير كلّ واحد منهم إلى المعروضات على منضدة الحلويات. مشهدٌ أسَرِيٌّ صباحي نادر في ضُحى الاثنين. فرحة صبيان بإفطار خارج البيت في مقهىً هادئ قرب بناية كبيرة تبدو غير جميلة. كأنها محكمة. لو أن مكانَها منتزهٌ للحي عِوض تلك البناية لكان للمقهى الأنيق أصلاً شأنٌ آخر. ومن يدري، ربما كان المنتزه هناك، ثمّ بدا لهم أن يُنبتوا مكانه طوابق الإسمنت، زهداً في المساحات الخضراء وبئس الزهد ذاك.

أشار النادل إلى مائدة شاغرة مجاورة انسحبتُ إليها فوراً. مضى هو يجمع للأسرة شمل الكراسي ويبحث هنا وهناك عن وسادات حمراء جلدية رقيقة يضعها على سواد الكراسي ليجتمع الأحمر وهو اللون باميتاز بالأسود وهو اللا-لون واللا-ضوء بامتياز.هل يفعل ذلك مع كل زبون؟ أم هل يستوي حضور المرأة مع أي حضور؟

عاد إلي بسرعة كأنّه يعتذر بالحال وأصغى لطلبي وهو يردد "نعاماس... نعاماس..." فأقبلت السيدة مثل بجعة أنيقة يتبعها الصغار على صفحة الحضور.

- ماما هل يمكنك أن تطلبي منه تشغيل قناة الرسوم هناك؟

لم أنتبه حين جلستُ إلى أن فوق رأسي شاشةَ تلفزة كبيرة خافتة الصوت قد انتبه إليها الطفل. رفعتُ بصري لأرى الناطق الحوثيّ يحرّك شفتيه ببيان قصف اسبارطة العرب كما صار يقال إغراءً وسحبا للجميع إلى حرب طروادة جديدة لا تبقي ولا تذر أحدا من الأميين. ولأنّني قد صرت فجأة لطيفاً وخَدوماً مثل النادل، فقد لوحت إليهِ عبر النافذة ليلبي طلبَ الصغير. استجاب في مثل لطفي المنسوج على لطفه الأول وأتى بجهاز التحكم وطفق يبحث حتى رست الشاشة على رسوم متحرّكة تجري يميناً وشمالاً دون كلال. طلبتُ منه أن يُجهِرَ الصوت ولا يبالي. انصرف. ثم عاد بخمسة أكواب بين قهوة وعصير وشاي، حواليها وبينها حلوى وهلاليات حطت على مائدة السيدة وأطفالها.

في مرآة نشاط أطفالها وحيويتهم، كانت المرأة تبدو صورةً جامدة لا تحسّ بشيء. كانت كالآلة. تُحذّر هذا أن يقلب كوبَه ببرود، والآخرَ أن يقطر عسلُ حلواه على ثوبه؛ مسحَت على صدر البنت التي لطخت فوراً صدرها بالشوكولاتة. كلّ ذلك والمرأة هادئة شاردة تحتسي فنجان قهوة سوداء كان كلَّ طلبِها. حين فرغت منه وأفرغته، طلبت فنجاناً آخر طفقت تحتسيه، كأنما تطردُ نوماً لم يأتِ ليلاً وأصبحَ من الغد يطالبُها بدَينه دون تأجيل...

فجأة، مدّت المرأة يدها داخل حقيبتها الصغيرة تبحث عن شيء. أخرجت هاتفاً يرنّ في صمت واهتزاز لم يفطن به غيرها.

- آلو... ماما... نعم أنا في المقهى أنتظرك... نفس المقهى... لا... لم يصل بعد ويمكن أن يصل في أية لحظة، نعم الأطفال معي... لا تتأخّري...

لعلّها كانت تريد أن تستودعَ الأبناءَ عند جدّتهم حين يصل زوجها، فينطلقا في يوم استقالة من كلّ شيء، حتّى ممّن لا تجوز منهم الاستقالة. جولة هنا وهناك، ساعدُها مشتبكاً بساعده. وجبة غذاء في عتمة مطعم لبنانيّ تضيئه الشموع فقط. مشاهدة فيلم سينمائيّ يعرض للأسبوع الرّابع في القاعات، كأنّه "هكذا الأيام" في أيّامه الخوالي، أو احتساء عصير متنوّع بطعم الهروب الكبير في مقهى على الشاطئ، عِوضَ تلك القهوة السّوداء الّتي...

ما إن أتمّتَها حتى مثلَ شخص أمام مائدتها يحمل محفظة جلدية مكتنزة. حياها بتحية مِهنية مُقتضبة. بعد ردٍّ متوتّرٍ منها، التفتَت المرأة يميناً وشمالاً تترقّب قدوم من يأخذ عنها حِملاً لا تريد وضعه... ولا بد. هذا ما كانت تحاذرُه. نادت النادل ليحضر بسرعة. استأمنَته على أبنائها ريثما تأتي جدّتُهم عمّا قليل كأنّه من معارفها. لاقى نظري وجهَها لأوّل مرّة منذ جلست. فوق بياض الكِمامة كانت تحيط بعينها اليسرى هالة سوداء تعلوها زرقة. كأنّها كدمة. فوراً طأطأت رأسها فانسدلت على جوانبه خصلات شعرها المتمرّدة. طفقت تحذّر أبناءها كي لا يتحرّك منهم أحد حتى تصل "المِّيمَة" أو تعود هي. بصيغة المفرد. لا غير. هي في الجوار. هي هنا. هي هناك عن قرب. انصرفت مع صاحب المحفظة، تِجاه البناية الكبيرة غير الجميلة. كأنّها محكمة... كأنّها ستكمل الجلسة هناك. ليت البناية كانت منتزهاً. ليت صاحب المحفظة المكتنزة كان زوجها. ليتهما أخذا الصّغار إلى منتزه كان هنا ربما واندثر...

لم أشعر أن انتدبتُ نفسي لأراقب الأطفال عن بعد، ريثما يأتي من يجالسهم أو يرافقهم. طلب زبون في ناحية المقهى من النادل المشغول أصلاً أن يقلب القناة. بدا نفس مشهد الحوثيّ في موجز أخبار على رأس الساعة يحرّك شفتيه ببيان قصف اسبارطة العرب، إغراء وسحبا للجميع إلى حربِ طروادةٍ جديدة لا تبقي ولا تذر أحداً من الأميين...

انتظرتُ ملياً. لم يأت أحد. نبهت النادل عند الانصراف إلى أنّ عقد الصبية صار ينفرط. قناةُ الرسوم كانت على الأقل تشدّ انتباههم ريثما يحضر من يعنيه أمرهم. وعدني بإعادتها فور نهاية الأخبار. أخبار الكبار...


الحجر الصحفي في زمن الحوثي