الاحتفاء بالشعر في يوم لامع، يدعونا إلى فتح صفحته واستحضار أسئلته العديدة والملحّة: حول منعطفات الشعر والدوال المشكلة له، وهي تتطور وتتسع (كلمة، صورة، إيقاع…). وحول تأثيراته الأدبية والفكرية، من خلال فعل الإدهاش والانزياح عن المألوف والرتيب.
كما يمكن التوقف حول وضعه الهش وموقعه داخل المجتمع والحياة، سعيا إلى وضع اليد على الأسباب المؤدية لذلك. منها غياب الثقافة الشعرية وتدنيها، نظرا إلى عوامل كثيرة من فقر وأمية، إضافة إلى طريقة تدريس الشعر في مؤسساتنا التعليمية التي لا تحببه ولا تفتحه على الحياة. وبالتالي، غمر المقررات بالقصائد القديمة المغلقة. لهذا فالطلبة بعد تخرجهم، لا يتابعون قراءة الشعر.
بل أكثر من ذلك هناك غياب الإدراك الدقيق لجنس الشعر كخطاب له خصائصه وميكانيزماته. وإلا وقع الخلط والطمس. فالكثير من المتعلمين لا يفرّقون بين الشعر والرواية والنقد… ناهيك عن غياب المفهوم. فالشعر يربطونه دوما بالإنشاد ونفخ الأوداج، وبالعواطف بمعناها البسيط كأن الشعر بلا مقدرة أدبية وفكرية على الحوار والجدل، بل والتأثير القوي، استنهاضا وتكوينا صقيلا.
غياب الثقافة الشعرية، يجعل التلقي معطوبا ويحول ذلك دون التفاعل مع الشعر في نحته وتجلياته الفنية. لهذا تكون القراءات سطحية، تتوقف حول المستوى الأول المباشر في التداول والقراءة.
كما يمكن استحضار دور المجتمع المدني. في هذا السياق تبدو الجمعيات الثقافية متحملة لمسؤولية كبرى في إيصال الشعر وتداوله على مستوى أكبر. فأغلب الجمعيات تخص الشعر بقراءات سريعة على الهواء أو جمع الشعراء في ملتقيات غدت مهرجانات يطغى عليها الصخب والسرعة، وهو ما يؤدي إلى لفت النظر إلى الجسد دون النص ودواله.
وبالتالي، فهذه الجمعيات لم تقدم خدمات للشعر، لكي يمشي بيننا مفهوما ممتدا. فالشعر يقتضي التمهل والهدوء في عرضه وإيصاله إلى الناس دون سرعة قاتلة، ناهيك عن الارتجالية. كيف يمكن لإنسان لا يفهم في الشعر والثقافة عموما أن يؤطر الشعر والشعراء، بل يسوق الكل بضحالة سائدة.
ويمكن في هذا السياق إدراج التكريم “القبلي”، إذ بدأنا نلاحظ تكريم الشعراء بشكل قبلي، فكل مجموعة ترفع شعراءها بشكل فج وبكيفية صاخبة، وأحيانا دون شعر. لهذا يجنح الشعراء أو الأشباه منهم إلى صنع صور عن أنفسهم إعلاميا أو بواسطة المحسوبية والمقايضات. وبالتالي فرض صور الشعراء على الناس، في غياب للضوابط النقدية، لأن النقد يمارس بواسطة أشخاص فقط، دون فريق أو مؤسسات أدبية.
في هذا الإطار يمكن إدخال الجوائز الجارية ذات المقاييس غير الأدبية. إنه تكريم قبلي، حول المشهد إلى ملل ونحل، مفرغا الشعر من جوهره ذي المسيرة صعبة التكوين والجريان.
واضح، في غياب الضوابط وتردي الثقافة الشعرية، ناهيك عن الوضع المأزوم للقراءة داخل المجتمع، في ظل هذه الوضعية يكثر الشعراء دون شعر من خلال ملء النوافذ والصراخ في المهرجانات، بل التدفق الإعلامي. وفي المقابل، لا يستطيع المتلقي التمييز أو على الأقل معرفة هوية الشعر.
والذي زاد الأمر تعقيدا هو مجاملة النقد لهذا “الشعر” الجاري. فطغت الإخوانيات التي تكرّس الأشخاص دون نصوص. فأيّ شعر يكتب الآن هو استمرار لمسيرته. فبأي شكل سنجادل الجغرافيات والخصوصيات الشعرية؟
الشعر جهد وعمل حقيقي، يقتضي تحويل الذات إلى شبكة من العلاقات، في اتجاه الواقع والتاريخ وضرورة استيعاب أشكال الصراع والتناقضات، وفي اتجاه الفكر باعتباره تصورات ورؤى للحياة والوجود، فضلا عن مقروء في الأدب بأشكاله ومنه الاجتراحات الشعرية وسياقاتها. آنذاك يمكن الحديث عن الإبداع والإضافة.
يغلب ظني أن التحولات والسياقات الحالية، المحلية والعالمية، المطبوعة بالتراجيديا والمأساة امتدت إلى النفوس والعقول. أقول إن ذلك يقتضي تجميع الكينونة المتشظية والانتشار في الشرايين كالماء والهواء؛ ضدا على الهجمات على الإنسان كمعنى.
إن هذه التحولات تقتضي شعرا يقظا، يمتص التراجيديات ويعيدها عبر سهام نافذة وواخزة للمألوف الرتيب والخالي من الارتعاشات والنبض. ها هنا يمكن للشعر أن يجدد المتخشب انطلاقا من اللغة إلى الرؤيا والمخيال.. فلا مجال الآن للشعر الغافل المنجرف، المعطوب، الصارخ، الخالي.. نحن في حاجة إلى الشعر المشبع بالأفكار والرؤى، بالقلق المنثور في مستويات النص، ضمن وحدة مركبة، على نظر بعيد، فوق هذا الخراب.
ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية