نشوان وعادل .. يا معين ؟

مصطفى غليس
السبت ، ٣٠ يناير ٢٠٢١ الساعة ١١:١٦ صباحاً

في يونيو 2018 كنت مع أستاذي الزميل عادل الأحمدي في جلسة مقيل طويلة بمدينة مأرب، وبعد نقاشات مطولة هنا وهناك طرح علي فكرة استقالته عن صحيفة العربي الجديد التي كان يدير مكتبها في اليمن. لم تكن هذه المرة الأولى التي يطرح الأحمدي فيها عليّ هذه الفكرة مستشيرًا وطالبًا رأيي، فقد طرحها عليّ قبل ذلك بشهور لمرات عدة، لكنه كان هذه المرة مصرًا لدرجة صٌعُب علي إقناعه بالعدول عنها.

  كان الأحمدي، خلال سني عمله مديرًا لمكتب العربي الجديد مكبلًا بمحاذير وخطوط عريضة وسياسية تحريرية فرضتها توجهات ممولي الصحيفة، لكنه في الوقت ذاته كان ملتزمًا بمبادئه حافظًا لها ومحافظًا عليها، ولم ينصع للطلبات التي كانت ترده بين فترة وأخرى، فقد كانت في غالبيتها تدعم ميليشيا الحوثي، وكيف ينصاع مثله أو حتى يرضى بذلك وهو الجندي المحارب ضد هذه الجماعة الإرهابية منذ أعلنت عن نفسها رسميًا بأول طلقة وجهتها إلى نحر الدولة والشعب اليمني في 2004، أو ما يعرف بالحرب الأولى، والتي على إثرها، خرج إلى الحياة كتابه السباق "الزهر والحجر" راصدًا فيه بمهنية علمية مسيرة جماعة الحوثي الإرهابية ومحذرًا مما نعيشه اليوم.

  أسر إليّ الأحمدي مما يعانيه جراء انحراف الخط التحريري للصحيفة، وكيف تعارض ذلك الخط مع مع مبادئه التي تشربها ويؤمن بها. قلت له - وأنا أعلم بحاجته الماسة للراتب - ستخسر 4 ألف دولار تستلمها شهريًا وبلا تأخير.. هي معاشك ومصدر دخلك الوحيد وعليك التزامات لأسرتيك في المنفى وفي اليمن، فرد عليّ بحزم: بلغ السيل الزبى فوالله لن أكتب حرفًا واحدًا يناقض ما أؤمن، فلم أعملها سابقًا ولن أعملها اليوم، وسأرحل من الصحيفة بسلام وبلا ضجيج فلم يكونوا يومًا مقصرين في حقي إطلاقًا وخلافي الوحيد معهم يكمن في تعارض التوجهات وتضاربها، فلهم طريق ولي طريق. 

  بعدها بفترة وفي فبراير 2020 تحديدًا، قدم الأحمدي العادل استقالته من العربي الجديد، دون ضجيج، بعد ست سنوات من العمل لم يكتب فيها قط ما يناقض قناعته، والجميل في الأمر أن طاقم الصحيفة كان متعاونًا معه جدًا، وحاولوا ثنيه عن الاستقالة، لكن صيغتها كانت ملزمة لهم بقبولها، فما كان منهم إلا أن عبروا له أسفهم على ذلك القرار الجريء. 

  ترك الأحمدي عمله ومصدر دخله الوحيد والفريد دون أي بديل، ولم يحاول استثمار ذلك عند خصوم الدولة التي تمول الصحيفة، ولم ينشر حتى تغريدة أنه ترك العمل، بل فضل الصمت لكي لا يُفهم خطأً أنه يروم مصلحة من هذه الجهة أو تلك، وإلى اليوم ليس للأحمدي أي مصدر دخل بديل، لكنه كمال قال لي استعاد نفسه وعاد إلى بلده، وهذا في نظره - ونظري أيضًا - أكبر من كل عائد.

  بعد استقالته تنفس أستاذنا مجددًا الحرية التي سلبتها منه الوظيفة، ومنعته حتى عن الإدلاء برأي شخصي. فَرَدَ صاحب "الزهر والحجر"، و"الخيوط المنسية" جناحيه، ومن عدن عاود التحليق مجددًا في مسارين كلاهما يدعم الآخر، ودخل هذه المرة كما في المرات السابقة في مواجهة مفتوحة مع الحوثيين، فاضحًا لهم ومسلطًا الضوء على مسيرة عنصرية إرهابية في فكرها وأفعالها بقلمه وصوته وعبر مركز نشوان الحميري للدراسات والإعلام. 

  حتى وهو في العربي الجديد لم يتوقف يراع الأحمدي عن نفث حبره الثمين لتوعية وتبصير اليمنيين والعرب والعجم بما تحمله مليشيا الحوثي من أفكار راديكالية متطرفة وسلالية مقيتة، ولم يخفت صوته، لكن نشاطه البحثي والمجتمعي تراجع لبعض الشي، ومع استقالته التي خسر جراءها دخل ومعيشة أسرتين وربما ثلاث، استعاد توهجه، وبهمة واقتدرا ليسا بغريبين عليه أنجز بشخصه وعبر مركز نشوان في بضع شهور ما لم تنجزه وزارة الثقافة والأوقاف والأرشاد وغيرها من الوزرات في 6 سنوات، فقد أصدر المركز 11 كتابًا، ولديه نحو 11 كتابًا أخرى قيد النشر، وكلها احتياج لازم في معركتنا الفكرية.

  توالت إصدرات المركز الفكرية والتاريخية وامتدت إلى كل مجال يعلي من شأن اليمن ويكشف قبح وزيف عصابة الحوثي، وفتح منصة للباحثين والمفكرين عجزت الجهات الرسمية أن توفرها لهم، فاستوعبهم الأحمدي ومؤلفاتهم وأخرجها إلى النور بمجهودات شخصية يقتطعها من قوت الأسر التي يرعاها أو من دعم أصدقاءه ومعارفه. إضافة إلى نشاط كبير في الجانب الإعلامي وإنجاز غير مسبوق في الملفات التي فتحها عن أعلام اليمن ومناسباته الوطنية تضاهي في محتواها ما تنشره كبريات دور النشر العربية التي تمتلك مئات الموظفين لكن عادل الأحمدي أنجزها فردًا مع شقيقه المبدع رياض، والأخير خير سند لخير أخ. 

  يتوجب علينا، حكومة وأفرادًا، أن نولي الأحمدي ونشوان كل الرعاية والاهتمام والدعم، وإن كنت أعلم أن الحكومة التي أنا ابنها شحيحة الموارد إلى درجة العدم، إلا أن أملي بشخص دولة رئيس الوزراء الدكتور معين عبدالملك كبير، وثقتي به وبمبادرته إلى دعم مركز نشوان شاسعة، وكيف لا يكون كذلك وأنا أعلم أنه خير من يقدر مثل هذه الأعمال الوطنية والعلمية الخالصة ويوليها جل اهتمامه، وليكن معلومًا أنه وحتى اليوم ليس لمركز نشوان الحميري اعتماد ولا حتى فلس واحد من أي كان، وكل ما أنجزه نتاج تبرعات أصدقاء ومعارف لرئيسه عادل الأحمدي. 

  طرفة للختام:

تواصلت بعادل الأحمدي، يوم أمس، وبدأت حديثي معه بكلمة أستاذي، فرد علي ضاحكًا: أيش حكايتكم فمنذ استقالتي من العربي الجديد تعرفت على زملاء وزميلات كانوا أساتذة لي بحبهم وتشجيعهم ويصرون مثلك على مناداتي بالأستاذ؟! 

نعم يا عادل أنت أستاذنا ودليلنا إلى النور، واستغرابك هذا هو من بعث في فكري موضوع هذا المقال.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي