الإمامة وسيكولوحيا الخوف ( 2 - 2 )

د. ثابت الأحمدي
الجمعة ، ٠٦ نوفمبر ٢٠٢٠ الساعة ١٠:٠١ صباحاً

لقد تعززتْ في النَّفْسيّة اليَمَنِيَّةِ فكرةُ الهجرةِ والاغترابِ عن الوطَن، وشكّلَ اليَمَني بمعارفِه وخبراتِه وتفانيه عاملَ بناء وتقدُّم للغيرِ خارجَ وطنِه، في الوقتِ الذي يحتاجُ وطنُه لنصف تلك الجهود منه؛ بلْ لقد تم استغلاله خارجَ وطنه بصورةٍ تبعثُ على الأسى والحزن.

كما تم هَجر الأرض اليَمَنِيَّةِ على خُصوبةِ تُربتها، وتُركتْ هَملا من قبل أهلها؛ لأنَّ ناتج ثمرتها لم يعد في يده، بقدر ما يؤولُ ظلمًا إلى الإمَامِ أو حاشيتِه، فكانت تلك المشاهدُ والمآسي الإنسانيَّة التي نقرأ عنها ونسمعُ، خَاصَّة في الريف اليَمني، الذي مثل مسرحًا دراماتيكيًا لأحْداثٍ لا تخطرُ على ذهنِ الشَّيطان.

ذاتُ الشَّأنِ مع التجارةِ التي كادتْ أن تنتهِيَ تمامًا من ثَقَافَةِ المجتَمع، مع أنَّ المُجتَمعَ اليَمَنيَّ ـ تاريخيًا ومنذ آلاف السنين ـ قد تميزَ بهاتين الحرفتينِ على غيره من الشُّعوب وبرع فيهما، وهما الزراعة والتجارة؛ إلا أنَّ عصورَ الإِمَامَةِ كادتْ أن تجعلهما نسيًا منسيًا؛ لأنه يستحيلُ وجود زراعةٍ أو تجارة، أو هما معًا في ظلِّ مجتمعٍ مُضطربِ أمنيًا وسِياسيًا، فهما ابنا الأمنِ والأمانِ ونتاجه؛ علمًا أن صَنعاءَ قد كانتْ يومًا ما واحدًا من أشهرِ أسْواقِ العَرَبِ التاريخيَّة؛ بل لقد كانتْ اليَمَنُ من أهم دول العالم القديم المسيطرةِ على التجارة العالميَّة سَابقا، ومنها وعبرها تمر أغلى السِّلع العالميَّة وأثمنُها، وكان اليَمَنيُّون بحّارينَ مهرةً، لا تضاهيهمْ أمَّةٌ في الدنيا في هَذا الفن. 

وقَدْ أشَار إلى ذلك المؤرخُ الروماني الشهير "هيرودت"، مشيدًا بخبرةِ اليمنيين في صِناعةِ المراكبِ والسُّفنِ والإبْحارِ صيفًا وشتاء.. إلخ. ولم يكن الغزوُ الروماني لليمن سنة 23 قبل الميلاد إلا منافسَة لليمنِ من قبل أعتى وأكبرِ امبراطوريةٍ عالميَّة يومها، ومع هَذا فقد هُزمتْ هَذِه الامبراطوريةُ أمَامَ اليمنيين وذُبح جنودُها ذبحًا في صحارى الجوف ومارب!

فبدلا من تحريكِ السَّواعدِ لاسْتصلاح الأرضِ وشق التُّرعِ وعمارةِ المدرجاتِ وصناعةِ السُّفن، والانشغالِ بالتجارة، كما كان الحالُ عليه في العهود السَّبئيةِ والحِمْيَرِيَّةِ، تحولتْ هَذِه السَّواعدُ حمَّالةً لسيفِ الثأرِ أو بندقيَّة الغزو، أو هراوة الانتقام، في أقبح تحولٍ تاريخي.. من حَضَارَةٍ عريقة بهرتْ العالم بعراقتِها وأصَالتها ومدنيَّتها، وبانفتاحها على العالم، إلى "كانتونات" منغلقة، تقتاتُ البؤسَ وتحتسي الحرمان.. وأرخصُ ما فيها هو الإنسَان!

والأهم هنا من الآثار السِّلبيَّةِ التي تركتهْا الحروبُ على الجانبِ العلمي والثقافي والإنتاجي كما أشرنا، يبقى أثرُها الكبيرُ على الجانبِ النفسي وما تتركه على سَيكولوجيَّة الإنسَان؛ خاصَّة وأنَّ هَذِه الحروبَ ذاتُ طابعٍ ُمغَايرٍ لأيةِ حروبٍ أخرى، فليستْ حروبَ جُيوشٍ نظاميَّةٍ تقتصرُ على فرقٍ مدرَّبة ومقاتلة فقط، بل تُعتبر القبيلةُ كلُّها جيشًا محاربًا، غازيًا أو مغزيًا، قاتلا أو مقتولا.. فكلُّ فردٍ في القَبيلة هو جنديٌ مقاتلٌ بالفطرة، ولديه من قصصِ الموروثِ الحربي التي تفتَّحَ وعيُه عَليْها منذ الصِّغر ما يفوق ما لدى الجنديَّ النظامي من المعارفِ النَّظَريَّةِ والعَمليَّة في مَجَال الحرب! 

وعادةً ما تدورُ رحى هَذِه الحروبِ في الأغلبِ الأعم على مقربةٍ من الديارِ والأهل والسكنى وداخل القرى؛ لذا كان المجتمع كله حربيا الأطفال والنساء إلى جانب الرجال شبابا وشيوخا.

ولأن حروب الإمامة الهادوية بجيوشها القبلية غير نظامية فقد عمدت في حروبها على المجتمع إلى سياسة التنكيل والهدم والنفي إلى جانب القتل والأسر، خلافا لكثير من الحروب المتعارف عليها، فإذا ما نجا معارضٌ ما لهم، واستطاع الفرار بجلده، يعمدُ هذا الإمام أو ذاك إلى حرب نفسية مدمرة أخرى وهي حرق مزارعه وتدمير منزله ونهب ممتلكاته، فيصبح في ليلة وضحاها فقيرا مدقعا، وقد كان غنيا أو ميسور الحال، وهنا يكون القضاء عليه نهائيا بهذه الطريقة الخطيرة التي تفقده الأمل في البقاء والعيش بكرامة، فيتحول إلى لص أو قاتل أو قاطع طريق وقد فقد كل ما يملك. 

وفي سير الأئمة مئات الشواهد التاريخية على ذلك، ابتداء من المؤسس الأول يحيى حسين الرسي، وانتهاء بالحوثي. ومن شابَهَ أباه فما ظلم.! وفي قصيدة الشهيد زيد الموشكي أبلغ إشارة إلى هذه العادة الإمامية المتأصلة فيهم خلفًا عن سلف.

لله درُّك فارسًا مغــــــــــــــوارًا 

طعنَ السقوف ونازل الأحجـارا

يا من هدمت البيت فوق صغاره 

شكـــــرًا فأنت جعلتنا أحـرارا

الحجر الصحفي في زمن الحوثي