المسألة الطائفيّة وصلاحيّة الشريعة (1-2)

وائل الحارثي
الاربعاء ، ٠١ اكتوبر ٢٠١٤ الساعة ٠٤:٤٩ صباحاً
 
يجدر بكل مؤمن مراجعة ونقد كل التصوّرات والممارسات التي تشوّه وتؤثر سلبًا على ما يؤمن به من مفاهيم وقيم ومبادئ كلية يرى أنها تحمل الخيرية للبشرية جمعاء.
 
ومن ذلك؛ مناقشة التأثير السلبي للمفاهيم والممارسات المتطرفة كالطائفية على التصوّر عن الشريعة في بُعدها القِيَمي والدين في صورته الإجمالية.
 
- 1 -
 
إن من المبادئ المركزية التي يؤمن بها المسلمون هو مبدأ صلاحية الشريعة وشمولها لكل زمان ومكان، ومقتضى هذه الصلاحية هو قدرة الدين الإسلامي على تقديم كل ما فيه مصلحة وخير وسعادة للمسلمين ودفع كل ما فيه ضرر عنهم، وتبشير الإنسانية جمعاء بما تتكفل به هذه الشريعة من معاني ومبادئ وتصورات وأحكام تهدف لصلاح البشرية.
 
و خاصية مبدأ الصلاحية تظهر في مقدار المرونة في استيعاب المتغيرات والمؤثرات التي يفرضها الواقع المتغير بحسب الزمان والمكان، ومدى تحقيق المبادئ الكلية الإنسانية من العدالة والكرامة والسلام.
 
وحينما تُفتقد هذه العناصر والقِيَم في الخطاب الديني السائد، فهذا دليل على اختلال التصوّر واضطراب الممارسة ودخول الأهواء الشخصية والمذهبية التي ترغب في قصر وحصر الخيرية والكرامة والعدالة في مذهب أو طائفة على حساب الآخرين.
 
إن تصدّر خطاب التحيُّز الفكري في الخطاب الديني يهدد مبدأ الصلاحية والشمولية الذي يتدين به المسلمون تجاه الشريعة الإسلامية.
 
ومن أجل المحافظة على سلامة واستقامة مبدأ الصلاحية يجب إعادة تقييم كثير من التصورات الخاطئة والممارسات المتجاوزة التي تضرُّ بصورة الشريعة والدين كمقصدٍ كليٍّ ضروريٍّ تجب المحافظة عليه، وذلك أنّ هذه التصورات والممارسات الفاسدة تقع في دائرة المفاسد التي يجب نفيها ودفع شرورها عن المسلمين.
 
ومن هذه التصورات والممارسات المُضرَّة بالصورة الدينية عمومًا (الموقف الطائفي)، وهو موقف فكري إقصائي مُتعصِّب للطائفة أو المذهب أو الحزب، قابل للتحوّل والتطوّر نحو الاعتداء الشخصي والمحاربة الاستئصالية.
 
وبناءً على ذلك؛ فالخطاب الطائفي هو الخطاب الذي يتضمن تحريضًا مؤذيًا ومعتديًا ضد حقوق المخالف!
 
- 2 -
 
ثمةَ أصولٌ ومبادئ كليّة في الشريعة الإسلامية دارتْ حولَ تقريرِها وتثبيتِها في العقل الإسلامي مجموعةٌ من النصوص والأحكام الشرعية = تستلزم استيعاب الخلاف والعدالة مع المخالفين.
 
كأصل الإسلام نفسه، فإنّه يترتب عليه مجموعة من الحقوق اللازمة لكلّ المسلمين بين بعضهم البعض بمجرد دخولهم في الإسلام وتلبّسهم بوصف الإسلام.
 
وأصل العدل والإحسان الذي قامت عليه الشرائع، كما في قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، وقوله: (قل أمر ربي بالقسط)، وقوله: (إن الله يحب المقسطين).
 
وأصل عدم الإكراه، كما في قوله جل وعلا: (لا إكراه في الدين)، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لايضرُّكم من ضلَّ إذا اهتديتم)، وقوله جل وعلا: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وقوله: (ليسَ عليكَ هُدَاهُمْ ولكنَّ الله يَهدِي مَن يشاء)، وقوله: (ولَو شاء رَبُّكَ لآمنَ مَن في الأرض كُلُّهم جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين).
 
وأصل مجادلة المخالفين بالتي هي أحسن ولزوم تجنّب السِّباب والشتائم وبواعث الاستفزاز والعُنف اللفظي والفعلي، كما في قوله تعالى: (ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)، وقوله سبحانه: (ولاتسبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عَدْواً بغير علم، كذلك زيّنّا لكل أمّةٍ عملهم).
 
وكذلك الأصول التي تُثبِت أن هذه الشريعة والدين إنما جاءت سلامًا ورحمة ورأفة بالعالمين وليست شقاء وعداوة وتفريقًا وحَرْبًا مفتوحة على الناس، كما في قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وقوله:(بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم)،(ولو كُنتَ فظًّا غليظ القلب لانفضُّوا من حولك).
 
فهذه الأصول مجتمعةً -وغيرها- تستوعب الخلاف بدرجاته وتُسيِّجهُ في الحدود النظرية المنضبطة بما لا يعود على الناس بالفساد والتنازع والتناحر، ولا يعني ذلك السكوت على الباطل وعدم بيان ما يراه الإنسان خطئًا في الشريعة، فليس الخطأ في محاولة محاصرة المنكر والخطأ بما يناسبه من النقد الموضوعي والنُّصح والمناظرة بالتي هي أحسن، إنما المشكل في التعدِّي على حقوق الآخرين المخالفين لك.
 
لذلك، فإن محاولة إنكار المنكر ومقاومة الأقوال المخالفة والمبتدعة مقيدةٌ في الشريعة بقاعدة المصالح والمفاسد، فالمحاولة التي يترتب عليها مفسدة تكون محظورة شرعًا، كما هو الحال في التجاوز إلى الأذى والتحريض على محاربة ومقاتلة الرأي المخالف.
 
كما إنّ تصوّر إزالة المنكر من الوجود بشكل كلي تصورٌ مخالف للسُنّة الكونية والقدرية بوجوده، (فكل ابن آدم خَطّاء) كما ورد في الحديث، (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم … الحديث)؛ لذا فإن المطلوب شرعًا هو استيعاب الخلاف السائغ وتقبُّل وجوده شرعًا كما هو مُقدَّر كونًا، وكذلك التعايش مع الخلاف غير السائغ بما يحفظ الحقوق الإنسانية العامة لجميع الأطراف مع الاحتفاظ بحق المحاورة والرد والنقد والمناظرة بالتي هي أحسن أي بما لا يتسبب بمفسدة أكبر كالتنازع والتناحر والاحتراب.
 
وربما يستند البعض في تسويغ هذا النوع من الملاحقة الطائفية؛ على تصور خاطئ يدعو إلى إزالة الخطأ أو المنكر-من وجهة نظره- من الوجود وربما يصل إلى إزالة (القائم به = الآخر) بكل الطرق الممكنة.
 
وهذا التصور لم يتحقق على طول التاريخ الإسلامي، حيث نشأت المذاهب الكلامية والأقوال المبتدعة والآراء المُخالفة في الدين منذ عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- ولم يحصل منهم محاربة ولا دعوة لاستئصال المخالفين ومحاربتهم ما لم يُبادروا بالاعتداء والحرب كموقف الخوارج الذين استحلُّوا الدماء لفرض رأيهم، فقاومهم الصحابة -رضوان الله عليهم- دفعًا لصولتهم وعدوانهم لا لمجرد رأيهم المخالف، بل حتى الخوارج أنفسهم مع موقفهم العدواني لم يبادرهم الصحابة بالقتال مباشرة، بل كانت الخطوة الأولى دعوتهم للمناظرة والحوار و المناصحة قبل القتال كما فعل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حينما بعث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- لمناقشة ومناظرة الخوارج، وقد كان لذلك تأثيره الايجابي على العديد منهم، ثم إنهم لم يتتبعوهم بالقتال ولم يجهزوا على جرحاهم، بل اكتفوا بمجرد تفريقهم وتشتيت قوتهم دفعًا لعدوانهم.
 
وهذه الحادثة تفيد بأن منهج الصحابة من المخالف الفكري لم تصل لدرجة القتال إلا في حالات نادرة ولموجبات إضافية وليست مجرد المخالفة الفكرية/ العقدية.
 
ولعل منهج مدرسة الحديث من أشدِّ المناهج وأَدقِّها في متابعة وتصنيف المخالفين لما يتعلق برواية الحديث النبوي التي تُشترط فيها صفة العدالة والضبط، وعند ملاحظة موقف المُحدِّثين من الرواة المُتَّهمين بالبدعة كبدعة القدر أو التشيّع أو الإرجاء والخوارج، فإنهم مع تبدعيهم ومخالفتهم لهم يُفصِّلون في نوع البدعة وحال القائل بها، حتى إن كثيرًا من المُحدِّثين روى عن كثيرٍ من المُخالفين لهم عقديًّا، وامتلأت كتب الحديث بالرواة الموصوفين بالبدعة، بل كان أشدّ ما ذهب إليه بعض المحدثين هو موقف الهجر للمخالف المبتدع، لا محاربته والتضييق المعيشي عليه، وحتى موقف الهجر إنما هو موقف نسبي مصلحي إن تحققت منه ثمرة فيمكن أن يُطبّق وإلا فلا، بل الأوْلى تَرْكُهُ إذا لم يكن له فائدة أو ترتَّبت عليه مفسدةٌ وتقاطعٌ وتنازعٌ كما يحصل في الموقف الطائفي.
 
- 3 -
 
لقد حضرت النزاعات الطائفية في التاريخ الإسلامي بين عدة مذاهب وطوائف، وبأشكال ودرجات متفاوتة، وتقلّب التاريخ الإسلامي في مشاهد مزعجة لا زالت تُستدعى في الوقت المعاصر ويُعاد إحياؤها بشكل سلبي؛ حتى أصبح البعض يؤصِّل لمنطق الثارات الجاهلي في العقل المسلم، وأصبح كثير من الناس أسرى لحوادث الماضي، حيث أُعيد إنتاج وبعث الماضي في الحاضر بشكلٍ أثارَ بعض العقول الحداثية التي دعت ونادت إلى القطيعة التامة مع ذلك الماضي الذي بات معيقًا ومعرقلًا لحركة التقدُّم نحو المستقبل واستئناف الحضارة!
 
ومن نماذج المواقف الطائفية التي لا زال بعض المعاصرين يستعيدونها؛ الموقف الشهير للمعتزلة في فتنة خلق القرآن ضد أهل الحديث في مطلع القرن الثالث الهجري، حيث استقوى وتسلّط المعتزلة بالسياسي في فرض رأيهم، بل والامتحان والسجن والتعذيب لمن خالفه، وهو موقف طائفي يظهر فيه بوضوح الوجه القبيح للطائفية في فرض الآراء والمعتقدات والأذية عليها. ثم دارت الدائرة على المعتزلة في زمن الخليفة العباسي المتوكل واُضطهد المعتزلة وأوذوا شرَّ أذية نتيجة لأفعالهم السابقة.
 
ثم لما ظهر أمر الحنابلة في بغداد واختلفوا مع الإمام محمد بن جرير الطبري تسلطوا عليه ومنعوه من التعليم وحبسوه في بيته، ثم تقلَّبت الأيام ودارت عليهم الدوائر حتى آذاهم وحاربهم الأشاعرة، وأعان السلطانُ الأشعريةَ في مطاردتهم وطائفيتهم ضد الحنبلية.
 
وعلى صعيد الطوائف المختلفة لم يزل الاحتراب سجالًا بين الشيعة الرافضة وأهل السنّة، ففي القرن العاشر الهجري غلا بعض أهل السنة في تتبُّع الشيعة، ثم قامت الدولة الصفوية الشيعية على طلب الثار والانتقام واستباحت دماء أهل السنة أضعافًا مضاعفة وشردتهم تشريدًا مؤلمًا.
 
وحتى على المستوى الفقهي، وَجدَ الغلو المذهبي له مكانًا خاصة بين الحنفية والشافعية، واحترب القوم تعصبًا ونصرة لمذاهبهم، حتى عقد بعض الفقهاء مسألة تناقش مشروعية الزواج بين الحنفي والشافعية والعكس!
 
أما على مستوى الأديان؛ فلا شك أن أعظم النماذج للجرائم الطائفية ضد الإنسانية كانت في محاكم التفتيش المسيحية في إسبانيا التي أقيمت ضد المسلمين ثم اليهود وكانت على أساس ديني تجاوز جميع القيم والأخلاق الدينية والإنسانية.
 
إن هذا الحضور التاريخي المتكرر والمتنوع للطائفية على مستوى الأديان والعقائد والطوائف والمذاهب الفقهية يفيد بأن مشكلة الطائفية مشكلة متجذّرة في النّفس الإنسانية وفي العقل المتطرف المُتذرِّع باسم الدين في سبيل تغذية تصوراته المتطرفة.
 
وربما كان التوظيف السياسي يستغل الدين في التأثير على ذهنية (بعض) المتدينين من أجل تحقيق مآربه وبسط نفوذه أو إشغال الناس عن المظالم والفساد السياسي.
 
ويلتحق بالاستغلال السياسي؛ استغلال بعض مريدي النفوذ والسلطة المعرفية باسم الدين من رجال الدين الذين يجدون في توجيه عقل المتدين نحو العُنف والترهيب الفكري ضد الآخر هو الطريق الأقرب لنفوذ مذهبهم وسيادة رأيهم على الآخرين.
 
كما إن هذه النماذج التاريخية تفيد بشيوع (الموقف الطائفي) بين كافّة الطوائف على المستوى الإسلامي، بين طوائف السُّنة التي ترتبط بالسياسي، وبشكل أظهر وأشدُّ مرارة في الجدل السُّنِّي الشيعي. لكن الواقع والتاريخ يفيد بأن (الموقف الطائفي) أشدُّ تجذُّرًا وتطرفًا في المذهب الشيعي/الرافضي، وليس من الدقيق الإيحاء المتكرر في حوارات نقد الطائفية؛ بأن الطائفية مشكلة سُنية/ سلفية؛ بل الواقع أنها أظهر بكثير في الجانب الشيعي، والنزعة الاستئصالية ومنطق الثارات هي أكثر حضورًا في التراث والمخيال الشيعي، ولا يخفى أن جملةً من المواقف السلبية في الجانب السُّني ناتجة عن ردة فعل معاكسة للطرح الطائفي الشيعي، وهذا ما عملت عليه بعض القنوات الإعلامية الطائفية حيث اكتفت بإظهار مشاهد التطرف الموجود في كلا الطرفين لاستثارة موجات من ردود الفعل السلبية تجاه الآخر.
 
وهذه الملاحظة ليست من باب التراشق بالتُّهم أو المراوغة الجدلية للتخلّص أو التخفيف من التَّبِعة والمسؤولية التصحيحية، بل من باب الكشف عن حجم الورم والمرض ومساحته ومناطق انتشاره حتى يتمكّن المصلحون من وضع الِمبْضَع في مكانه الذي يُمكّنهم من محاصرته واستئصاله.
 
يتبع (2-2).
الحجر الصحفي في زمن الحوثي