شكراً اليمن اليوم

د. عبدالله صلاح
الاربعاء ، ٢٠ أغسطس ٢٠١٤ الساعة ٠٨:٥٤ مساءً
 
كذبوا وقالوا إن الحقوق والحريات تُنتزع ولا تُمنح، فآمن الناس جميعاً بالنزاع والصراع قولاً وفعلاً، وكفروا بإمكانية نيل الحق بالقانون أو المعروف أو الأخلاق. وأنتجت هذه الثقافة في الواقع ممارسات خاطئة تقوم على التربص ببعض والتوجس من بعض وأكل حقوق بعض. مع أن جميعهم نظاماً وأحزاباً وجماعات ومؤسسات وأفراداً يزايدون بمنح الحريات، وبذل الحقوق والإيمان بالديمقراطية، حتى شاب هذه المصطلحات (الحرية، والديمقراطية، والحقوق) في الوعي الجمعي اللبس والغموض، والتفسير حسب الهوى والمقصد.
 
وبناء عليه، أرى إنه من الإنصاف والصدق واحترام النفس، حين نجد ما يخالف هذا النسق أن نحرر عقولنا، ونعتق أحاسيسنا من الخضوع والعبودية لأوهام وخرافات الفكر الواحد أو الحزب الواحد أو الجماعة الواحدة التي ننتمي إليها، وامتلاك الجرأة للاعتراف بصواب فعل الآخر، وسلامة منهجه وجمال سلوكه وقيمه والإفصاح عنها، والإشادة بها دون خشيةٍ أو تلبيسٍ أو تضليل.
 
سأفصح اليوم عن حقيقة لا طمعاً ولا خوفاً ولا تزلفاً، وأنا على يقين أنها لن ترضي كثيراً من أمراض القلوب والعقول، ولكنها الحقيقة التي يدركها من ارتبط بهذه الصحيفة (صحيفة اليمن) أو كتب بها أو تعامل معها. وهي صحيفة معروفة للقاصي والداني أنها محسوبة على الرئيس السابق علي عبد الله صالح ونظامه وحزبه. إلا أنها في سياستها وبرنامج عملها تنزع هذا اللباس، وخاصة في مجال حرية القول والفكر ومنح الحقوق.
 
إن حرية الفكر والكتابة ليست مفهوماً مجرداً، أو شعاراً زائفاً يسقط في أول امتحان يستهدف قياس درجة الإيمان بمفهوم الحرية أو مدى مصداقية رفع الشعار. قبل أربع سنوات وفي سياق مقالات تنشر في صحيفة المدينة السعودية، اتصل بي مدير التحرير يستئذن بلطف حذف عبارات من مقال يناقش العلاقة المتينة بين الحاكم السياسي والحاكم الديني، وحين رفضت في البدء، ألح بأدب جم، هامساً أنه فعل ضروري لمصلحته والكاتب معاً.
 
ذلك الموقف، أسوأ منه ما تمارسه الصحف الرسمية في اليمن وبعض الصحف الحزبية والأهلية، فكم تجاهلت وأشاحت بوجهها عن المقالات التي تسلك طريق النقد وتعرية مساوئ الفساد والفاسدين الشائعة والمزدهرة في وطن لا شيء فيه يسرك، بحجة داحضة وهي تجاوز سياسة الصحيفة.
 
الشيء المختلف في عالم الصحافة المحلية، هو صحيفة (اليمن اليوم)، التي تتسم بخصلتين قلَّ أن تجدهما في غيرها من الصحف الرائجة في اليمن. الخصلة الأولى: أنها معافاة من الخلفية العقدية أو الجهوية أو السلالية، وأنها تمنح الكاتب الحرية المطلقة في إبداء رأيه أو فكره، وعلى الرغم من أنها محسوبة على رئيس النظام السابق، فهي تخلع كافة المحاذير، بما في ذلك الرئيس صالح نفسه، الذي تعرض أكثر من مرة للتشهير والتوصيف غير اللائق في كثير من المقالات المنشورة في صفحات الصحيفة المحسوبة عليه. 
 
كما أنه معلوم للجميع أن الصحيفة قد استوعبت بعضاً من الكتاب والصحفيين المعروفين بجهادهم وحروبهم الصحفية ضد الرئيس صالح ونظامه في السابق، ولا أعتقد أن أحداً يختلف أو يعترض على وطنية الصحفي "محمد المقالح" وانتقاده المتكرر للرئيس صالح ونظامه، وكذلك لا أشك في أن أحداً يزايد على صدق الكاتب والشاعر الساخر "عبد الكريم الرزاحي" في وقوفه ضد نظام صالح أيضاً، ومثل ذلك نقول: في حق الكاتب والصحفي الساخر "فكري قاسم". ومع كل ذلك تحتضن هذه الصحيفة هؤلاء الكتاب، وهم ما يزالون يؤمنون بأفكارهم وأرائهم الحرة والناقدة. ليس ذلك في الماضي فحسب، ولكن ما يكتبه هؤلاء اليوم في صفحات (اليمن اليوم) من هجوم شرس ضد الرئيس صالح بعينه ونظامه ورموز حزبه، يشعرك يقيناً أنها حالة استثنائية في بلاط الصحافة اليمنية، تحسب يقيناً للصحيفة ورئيس التحرير وطاقمها الإداري، ومن يقف وراءها، وتستحق الشكر والثناء.
 
إنها مرات عديدة يخالجني فيها الشك، وأحياناً اليقين بعدم نشر ما أرسله من مقالات -أنشر مقالين أسبوعياً- أو في أقل تقدير أنها ستتعرض للقرصنة واستخدام مقص الرقيب، ولكن في كل مرة تخيب الظنون، ويزداد الإيمان والثقة بأنها صحيفة متجردة وموضوعية، تقبل النقد والتعدد والاختلاف. ولكم النظر في هاتين العبارتين من مقال نشر بالصحيفة بعنوان (ليس سلام النبلاء). العبارة الأولى تشير إلى أصحاب العيد والسلام الذي شعل الناس في يوم عيدهم. (ما علمناه عنهم وخبرناه أنهم طغاة ومترفون وفاسدون وناهبون وأنانيون على مستوى العلاقات الخاصة والعامة على حد سواء). والعبارة الثانية تتحدث عن النظام السابق في كليته، وتقول: (عقود من الزمن وهم ينغصون حياة شعب بأكمله، ويمنونه بالفضلات والمسوغات الزائفة، فورث عنهم الجوع والخوف والذل والهوان. بينما هم وزوجاتهم وأبناؤهم والأقربون غارقون في اللهو والترف والملذات، ويعيشون في جنة عرضها الدنيا).
 
أما الخصلة الثانية التي تميز الصحيفة عن غيرها، بل أجزم أنها تنفرد بها عمن سواها من الصحف الرسمية والحزبية والأهلية، وهي خصلة منح الحقوق للكتاب والصحفيين (الحق الفكري)، فليست ثمة صحيفة أخرى تنتهج سيرها، من حيث منح الحق العادل والمرضي أو القريب منه، والالتزام زمنياً بمواعيد منح الحقوق دون تأخير أو مغالطة أو سرقة. لقد ظللت سنوات ثلاث -في منتصف العقد السابق- أكتب لصحيفة الثورة، ولا علم لي أن ما أستحقه كان يذهب إلى جيب أحد المحررين غير المحترمين، لولا أن واحدا ً من الأصدقاء رأى أسمي في كشف المستحقات وأبلغني بذلك. وغيري كثير من الكتاب يعانون إما ضياع الاسم أو نسيان إدراجه أو استخدام الحيل ليضل المبلغ المستحق عن طريق صاحبه.
 
كم أشعر بالخيبة والألم لتقصير الصحف اليمنية الرسمية والحزبية والأهلية، وفسادها وإغفالها أو تجاهلها الحق الفكري للكتاب والصحفيين الذين يعانون الأمرين؛ لفقرهم وعجزهم وهوانهم وأكل حقوقهم، ولا أعتقد أن ثمة شريحة أخرى أسوأ من شريحة المثقفين والكتاب والشعراء والصحفيين في اليمن، فهم في الدرك الأسفل من الفقر والجوع والإهمال. وكم أتمنى أن تسلك تلك الصحف طريق صحيفة (اليمن اليوم) في عملها المؤسسي والمهني، وفي منح الحقوق الفكرية. ولو فعلت جميعها ذلك لخففت كثيراً من وطأة المعاناة على هذه الشريحة المنكوبة.
 
ختاماً، شكراً صحيفة (اليمن اليوم)، شكراً رئيس التحرير وصحبه، شكراً للمؤسسة أو الجهة أو الشخص الذي أسس ويقف وراء هذا الكيان المهني والمؤسسي المؤمن بالحرية والانفتاح والتعدد والحقوق.
الحجر الصحفي في زمن الحوثي