رغم تصاعد الخطاب العاطفي لدى أغلب المراقبين والمحللين حول الصراع بين إيران وإسرائيل، إلا أن واقع هذه الحرب يشير إلى تحولات جوهرية في ميزان القوى الإقليمي والدولي، تكشف عن حرب ليست كأي حرب سابقة، لا من حيث مسرحها، ولا من حيث معادلاتها المعقدة.
فبعيدًا عن حسابات الأمنيات، وعن مشاعر الحب أو الكراهية تجاه إيران أو إسرائيل، لا بد للمتأمل في مجريات الحرب الراهنة أن يقرأها بعيون الواقع، لا العاطفة، ووفقًا لمعطياتها الحقيقية لا وفقًا لما يشتهي أو يخشى.
لا بد من الاعتراف أن الحرب الجارية اليوم بين إيران وإسرائيل ليست ككل الحروب السابقة التي خاضتها إسرائيل، سواء ضد دول المنطقة منفردة أو مجتمعة، ولا تشبه تلك التي شنتها الولايات المتحدة على العراق ضمن تحالف دولي غير مسبوق.
فالحروب التي خاضتها إسرائيل في الماضي كانت حروبًا خاطفة، سريعة، وخارج حدودها. أما اليوم، فلأول مرة تجد نفسها تخوض حربًا طويلة الأمد عن بُعد، لكنها تجري عمليًا على أرضها، وتحت صواريخ تُصيب عمقها الجغرافي. فإسرائيل، المعروفة تاريخيًا بأنها لا تحتمل كلفة الحروب الطويلة، ولا تمتلك ترف الصبر على معارك استنزاف، تجد نفسها في موقف غير مسبوق. ولهذا، فإن صمودها في هذه الحرب سيكون موضع شكّ إذا طالت، خاصة إذا ما فشلت في حسمها سريعًا أو نقلها خارج حدودها.
وما يزيد من تعقيد الموقف الإسرائيلي، أن خارطة التحالفات الإقليمية والدولية لم تعد كما كانت. فالدعم الذي كانت تتلقاه أمريكا وإسرائيل في حروب سابقة، بات اليوم موضع ارتباك، وربما انكشاف.
فالحرب الحالية تتشابك فيها حسابات إقليمية ودولية معقدة، قد لا تتيح لإسرائيل ولا لأمريكا حسم المعركة لصالحهما بسهولة. فما كان متاحًا لواشنطن من دعم لوجيستي وغطاء سياسي واسع، خصوصًا من دول الخليج، إبان غزو العراق، يبدو اليوم غائبًا أو في أدنى مستوياته. إذ أعلنت بعض العواصم الخليجية صراحةً إدانتها للعدوان الإسرائيلي، واتخذت مواقف أكثر حيادًا أو تحفظًا تجاه الحرب، وهو ما يُفقد أمريكا واحدًا من أهم مرتكزاتها التقليدية في المنطقة.
من ناحية أخرى، نجد أن باكستان، التي أعلنت وقوفها الصريح إلى جانب إيران — حتى وإن بدا ذلك الإعلان في ظاهره نابعًا من حسابات داخلية بحتة — إلا أنه في حقيقته، ينطلق من استشعار مبكر بأنها الهدف التالي إذا ما سقطت طهران.
في المقابل، تدرك الصين أن ما يجري لا ينفصل عن تطويقها، وتعلم أن انهيار إيران ثم باكستان سيجعلها في مرمى الاستهداف المباشر.
أما روسيا، التي تتربص بأمريكا لتردّ لها الصاع في أفغانستان وأوكرانيا مضاعفًا، فلن تُفوّت فرصة كهذه لإغراق واشنطن، ومعها تل أبيب، في مستنقع جديد من حرب استنزاف طويلة الأمد في الشرق الأوسط، مستنقع يجعل من فيتنام وأفغانستان مجرد نزهة بالمقارنة.
ولعلّ تجربة الولايات المتحدة مع الحوثيين — الذراع الأصغر لإيران في البحر الأحمر — تقدم مؤشرًا صغيرًا على ما ينتظرها. فقد انتهت تلك المواجهة بانسحاب أمريكي من طرف واحد، بعد خسائر مادية ومعنوية فادحة، رغم أن الطرف المقابل لم يكن سوى ميليشيا بدائية محدودة الإمكانيات.
فكيف سيكون الحال حين تجد أمريكا نفسها في مواجهة دولة كإيران، تحظى بدعم لوجيستي وسياسي مباشر من كل من الصين وروسيا؟
إن المآلات المحتملة لهذه الحرب، في ظل هذا التشابك الدولي المتسارع، لا تقتصر على النصر أو الهزيمة، بل على طبيعة الحرب ذاتها: هل ستبقى حربًا بالوكالة، أم تتدحرج إلى مواجهة مباشرة؟ هل تبقى صراع مصالح قابلًا للاحتواء، أم تتحول إلى صراع وجودي مفتوح؟
عند هذه النقطة، تبرز واحدة من أخطر مفترقات الطريق: فالحرب بين إيران وإسرائيل، حتى هذه اللحظة، لم تبلغ بعد حدّ "الحرب الوجودية". فهي لا تزال تدور في فلك المصالح والمناورات وحسابات الرسائل المتبادلة. فإن اتفق الطرفان — كما تأمل طهران — فقد تهدأ النار، ولو مؤقتًا. أما إن أصرت تل أبيب على تحويلها إلى معركة كسر عظم وجودية، فإن النتيجة لن تقف عند زوال أحد الطرفين، بل قد تجرف في طريقها أطرافًا أخرى، وتعيد رسم خارطة المنطقة من جديد، بل وربما تعيد تشكيل خارطة المصالح الدولية ذاتها، كما لم يحدث منذ نهاية الحرب الباردة.
وفي الحالتين... العرب هم الخاسر الأكبر.
-->