لم تكن الوضيفة العامة يومًا إلا واجبًا وطنيًا ينذر الموضف حياته لخدمة الوطن والشعب وفقًا لعقد اجتماعي اقتضى أداء واجب بمقابل مخصص وراتب، ما دون ذلك فهو تقلب بين هدفين إما السعي إلى استغلال الوضيفة العامة إذا ما أتيحت الفرصة لإشباع الرغبة بطريقة غير مشروعة، أو ضياع العمر تأرجحًا بين الحاجة ومتاعب الحياة، والمكسب إذا ما تنزه هو شرف الخدمة بما جادت به الدولة من زهيد المستحقات..
ولهذا اقتبست العنوان من مقال للمبدع "فتحي أبو النصر" عبارةً ملفتة وتشخيص سحيق لحالة الوظيفة العامة في اليمن، التي وقعت بين المبرر المذهبي الهادوي الإمامي المبيح لنهب الوظيفة لأبناء السلالة أن ينتشلوا منها ما يكفيهم تحقيقًا لمبدأ الأفضلية العرقية والتفوق المعيشي على باقي أبناء الأمة، وانسحاب ذلك المفهوم إلى واقع المؤمنين بالمذهب من غير السلالة بعد الثورة وتصديره لاحقًا كفتوى مالية وإدراية مفادها أن المال العام نهبًا لمن طالته يده ولا حساب للذراع الطويلة التي طالت..
فعلاً لم تكن المناصب وسامًا للخلود في أي مستوى من مستوياتها بل الكل يتغنى بمقولة أنه " لو دامت لغيرك ما وصلت إليك" الخالد هنا هو التاريخ إما أو التاريخ الذي قالوا بأنه لا يرحم لأنه سيبرز السقوط الأخلاقي وسلوك الضمير الميت ولن يجامل صاحب المنصب بعد هلاكه، ويلغي ما دون ذلك من مكاسب، بل قد يصير المال المنهوب وبالاً على العائلة في الدنيا وحساب قاسي عند الوقوف بين رب الشعب المنهوب..
بتنا نسمع عن قصص نزاهة الرعيل الأول من موضفي قطاع الدولة من أدنى سلمه إلى أعلاه رؤساء ومرؤسين وكأنا نقرأ في قصص ألف ليلة وليلة، عن الحياة في جزر الواق واق، نسمع عن ونزاهة وتقشف الزعماء محرري شعوبهم أول رئيس للجزائر بعد التحرير أحمد بن بله ألقيَّ عليه القبض عند الانقلاب عليه وهو يسكن في مجمع سكني في شقة مع مرافقيه، وكان يعتذر لأمه لأنه لا يسطيع مساعدتها لأن راتب الدولة لا يكفية وهو رئيس..
، عن السلال والحمدي والقادة الأوائل في شمال اليمن وجنوبه وعن صدام حسين الذي لم يعثر على دولار واحد في حسابه أو عقار باسمه أو تحت اسمٍ مستعار، جمال عبدالناصر الذي أقام الدنيا وأقعدها توفى وهو يسكن بيتًا تابعًا للدولة ولم يجدوا شيئًا بعد وفاته باسمه أو بإسم أحد من أفراد أسرته، وأمثالهم كُثُر كانوا نماذج ذهبية السمعة..
وقد لا يصدق شباب اليوم ققصهم وقصة نزاهة الموضف في جنوب اليمن بعد الاستقلال، إبان حكم الحزب الإشتراكي قبل الوحدة والعقوبة القاسية لمستغل الوضيفة أو المتورط في اختلاس دينار واحد دون حق..
لأن واقعنا اليوم بات ماحي وكاشف في آن واحد لتلك الحقب، كان الكثير من أعضاء الدولة يفاخرون أنهم مع الفقراء في مستوى واحد من المعيشة وأنهم في بيوت ليست لهم، لم يورثوا رصيدًا أو عقار..
عبارة "أمن مستقبل الأولاد" شاعت وأخذت طريقها إلى أذهان الناس واستقرت كمبدأ عام في نهب أموال الأمة واستغلال الوظيفة العامة كون التشجيع أو التغاضي عنه كان من قمة الهرم وهي ذاتها الجريمة الفاضحة..
كل ما تقدم ذكره كارثة تهون في الظروف العادية وفي حالة السلم والاستقرار، غير أن استمرارها في حالات الحروب وتعرض الشعوب لخطر وجودي والسيوف على الرقاب وفي حالة إما نكون أو لا نكون فتلك نكبة ضميرية وأخلاقية دينية تعافها الأنفس الشريفة ولا عقوبة لها إلى الطلقة أو القيد..
وذلك الحزم في العقوبة هو ما مورس في عهود القادة التاريخيين الذين عاشوا لأممهم أثناء الحروب أو في مراحل البناء وماتوا بأرواحهم النيرة نزاهةً وشرف...ختامًا إن حياة الإنسان أيًا كان هي صفحة بيضاء فليخط ويسجل فيها ما يشاء ولن تقرأ الأجيال إلا ما خط من كريم السمعة وعظيم الشرف..
-->