غياب سلطة الضمير نكبة وتكريس للفساد في الأرض

د. عبده مغلس
الجمعة ، ١٧ يناير ٢٠٢٥ الساعة ٠١:٠٢ مساءً

 

سلوك الإنسان يعكس ثقافته، فهي الموجهة لسلوكه، فسلوك المحبة يعكس ثقافة المحبة، وسلوك الكراهية يعكس ثقافة الكراهية، وسلوك الفساد يعكس ثقافة الفساد، قل لي ما هي ثقافتك أخبرك ما هو سلوكك. فالسلوك خيار يعكس الثقافة المُكَوِّنَةُ لوعي الإنسان وخياراته، فكل ما نمارسه من قول وعمل، هو نتاج خياراتنا وقناعاتنا، وفق ثقافاتنا المُكَوِّنَةُ لعقولنا، والموجهة لسلوكنا، فالثقافة تُكَوّن سلوك الإنسان، وهي ما أطلق عليه كتاب دين الله الحق "الآبائية" أي ثقافة اتباع الأباء،ثقافة تقوم على الغاء العقل، والتفكر والتدبر، وتغييب لسلطة الضمير. 

فالإنسان كائن بشري متوحش، يسفك الدماء ويُفسد في الأرض، وهذا ما عرفته الملائكة من سلوك البشر، الذين ثقافتهم تقوم على النفس الأمارة بالسوء، المغيبة لسلطتي العقل والضمير، فسلوكهم هو الفساد في الأرض وسفك الدماء، وهذا هو السلوك الذي يمارسه الإنسان حين تغيب عنه سلطة الضمير بخوف الله ورجائه.

ولا توجد سلطة يمكنها إيقاف الإنسان عن توحشه وفساده، وكبح نفسه الأمارة بالسوء، غير سلطة ضميره، فهي فطرة الله، خلقها داخله، وخلق لها منظم وموجه، وضابط داخلي، ضمن تكوين خلقه، هي نفسه اللوامة، ونفسه المطمئنة، كما أوجد لها منظم وموجه، وضابط خارجي، هو دين الله الحق، كنظام حياة لسلوك واستخلاف الإنسان، وهو نظام قيوم على كل أنظمة الناس، ونظام الله بدينه الحق يحمل ابلاغه للناس، رُسُلُ الله من الملائكة والناس، وهذا الدين يقوم على صَلاة الصِلَةْ من الله وملائكته للناس، لإخراجهم من ظلمات الفساد والإفساد في الأرض، إلى نور التعايش والاستخلاف بسلام وأمن للناس كافة، لذلك عند اندماج دين الله الحق، بفطرة النفس اللوامة، يكون ناتجه ظهور الإنسان العابد لله، صاحب النفس المطمئنة، الذي يمتلك أقوى سلطة ظابطة ورادعة ومانعة، للفساد والإفساد والقتل والإهلاك للحرث والنسل، فهي سلطة تقوم على رجاء الله وخوفه، هي سلطة الضمير، فيتجه الإنسان بنفسه المطمئنة، ورقابة رجاء الله وخوفه، ليصنع ثقافة "السلم والأمن"، ليستعمر الأرض، من خلال عيشه وتعايشه مع أخيه الإنسان بسلام وأمن، فثقافة "السلم والأمن" تعني السلام والأمن مع الوجود الكوني والإنساني، فثقافة السلام هي دلالة وجوهر كلمة "الإسلام" وثقافة الأمن هي دلالة وجوهر "الإيمان" وبهما معاً تكون ثقافة "المسلم المؤمن" الملتزم بنظام الله في دينه، فالإسلام والإيمان لا يعنيان فقط فرائض العبادات الشخصية، التي يعتقدها الكثير من اتباع الرسالة الخاتم، فالعبادات تمثل الصِلَةْ الشخصية فقط بين العبد وربه، وهي جزء من نظام الدين وسلوكه، فالمعنى الحقيقي الأشمل للإسلام والإيمان ، هو السلام والأمن للوجود الكوني والإنساني، ولهذا أمر الله بإقامة صَلاة الصِلة وشرط قبولها وحقيقتها تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذه هي ثقافة الإسلام وأمّته، ثقافة السلام والأمن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثقافة تمثل الصِلَةْ العامة، بين الإنسان وأخيه الإنسان، والأرض المستخلف لعمارتها، وهي تمثل جوهر ثقافة الدين الحق، والعبادية الحقة، الموجهة لسلوك الإنسان في قوله وعمله، وهي المهمة التي خلق الله الإنسان لأدائها أي أنها سلطة الضمير.

لذلك فغياب سلطة الضمير من حياة الناس، تأتي من تغييب نظام دين الله، بفطرة الإنسان السليمة، بنفسه اللوامة ونفسه المطمئنة، وبسبب تغيب دين الله الحق من حياة الناس، نشأت عند الناس ثقافة توحش الإنسان، وفساده في الأرض، وعبر الله عن هذه الثقافة بكتاب دينه الحق بقوله سبحانه ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ﴾ [البقرة ٢٠٤-٢٠٦]

وتغييب جوهر دين الله الذي فصّله وبَيّنه بوحي تأوليه، هو أهمّ أذرع التآمر الذي تزول منه الجبال، الذي يقوم به شياطين الجن والإنس، ضد الإنسان ودين الله، انتقاماً لعنصرية إبليس 

من تفضيل الله لآدم.

وهذه الثقافة التي أشار لها الله بآيات سورة البقرة، نجدها في بلادنا، عند الكثير من الناس، فإن كانوا ساسة يوظفون السياسة لمصالحهم، لا لمصالح الوطن والناس، وإن كانوا دُعاة يوظفون الدين والدعوة لمصالحهم، لا مصالح الدين والناس، وإن كانوا موظفين يوظفون وظائفهم لخدمة مصالحهم لا مصالح الوطن والناس، وهكذا في كل المهن، وحين نسمع لقولهم، نجدهم يقولون كلاماً جميلاً معسولاً يعجبنا بوطنيّته ومقاله، ويستشهدون بقيم الدين والنزاهة والوطنية، وهم في أعماق أنفسهم ألد الخصام، على الدين والوطن والناس، فحين يتولون السلطة والقرار، يسعون لممارسة الفساد في اليمن ويحرقون الحرث والنسل، وإذا قيل لهم أتقوا الله في دينه وخلقه، تأخذهم العزة بالإثم، ويسيرون لمصيرهم المأساوي، في الدنيا والأخرة، بعيون لا تُبصر، وعقول لا تتعض.

لذلك فأزمتنا ثقافية أخلاقية، ولزاماً علينا إعادة انتاج ثقافة مختلفة، تعتمد على سلطة الضمير، ولا وجود لثقافة تنتج سلطة حقيقية للضمير، غير ثقافة دين الله الحق، لا ثقافة هيمنة الناس، ولا ثقافة الفقه المغلوط المبرر للهيمنة والتسلط.

إن ثقافة دين الله الحق تجعل ضمير الإنسان حياً يقظاً، مداوماً في كل حركاته وسكناته للصلاة الدائمة، التي هي يقضة الضمير في دوام صِلَتَه بالله، ودوام صِلَتَه بالناس، والتي بَيَّنَهَا الله بقوله في وصف المصلين بقوله: ﴿ٱلَّذِینَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَاۤىِٕمُونَ﴾ [المعارج ٢٣]

فسلطة الضمير المداوم لهذه الصِلات، يمنح الإنسان قوة سلطة التحكم بنفسه، الأمارة بالسوء، ونزغ شياطين الإنس والجن، لانه يمتلك ضميراً، يرجوا الله ويخاف عقابه، فيمتنع عن توظيف السياسة والدين والوظيفة وأي عمل يقوم به، لممارسة الفساد والإفساد من أجل مصالحه، فسلطة الضمير أقوى من سلطة القانون، فالضمير الذي يخاف الله، يرفض الاحتيال على القانون، والضمير الذي لا يخاف الله يمكنه الاحتيال على القانون، أو إخراجه من مظمونه، أو الغائه، ولنا مثلاً ونموذجاً لقوة سلطة الضمير، بسحرة الفرعون، فبقوة سلطة ضميرهم، برجاء الله وخوف عقابه، رفضوا كل إغراءات الفرعون بالمال والمكانة والقرب، وعقابه بالصلب والتقطيع من خلاف.

نحن بحاجة ماسة، لإحياء ثقافة الدين الحق، لإنتاج سلطة الضمير للخروج من دائرة الفساد والإفساد في الأرض، فدين الله "الإسلام" المرتكز على "الإيمان" هو نظام وقانون،لإقامة الوزن والقسط، في الوجود الإنساني والكوني، المرتكز على عموديين:

١- عمود "السِّلْم" من الإسلام، وهو سلم وسلام مع النفس ومحيطها الإنساني والكوني.

٢- عمود "الأمن" من الإيمان وهم أمن للنفس ومحيطها الإنساني والكوني.

﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱدۡخُلُوا۟ فِی ٱلسِّلۡمِ كَاۤفَّةࣰ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَ ٰ⁠تِ ٱلشَّیۡطَـٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوࣱّ مُّبِینࣱ﴾ [البقرة ٢٠٨]

وهذان العمودان "السلم والأمن" هما عمودي الدين الحق وجوهره، فبهما وحدهما تؤدى مهمة وجود خلق الإنسان وتكريمه، في العبادية والاستخلاف في الأرض، هذا الدين الحق، الذي حرفه الفقه المغلوط إما لدين تسلط وهيمنة كما في فقه الإمامة، من أحقية الهاشمية والبطنين بها، أو بفقه دين الاعتكاف على الفرائض فقط، دون كمال الدين وتمامه كنظام حياة، واعتقاد من يمارسها فقط أنه يمارس الدين الحق.

 

جمعتكم استعادة لإحياء ثقافة سلطة الضمير، القائمة على دين الله الحق، بعموديه السلم والأمن، للأرض والناس في اليمن، المانعة للفساد والإفساد، بهذا نستطيع ممارسة سياسة التعايش والبناء، ونقضي على الفساد الذي أهلك الحرث والنسل في اليمن.

د عبده سعيد المغلس

١٧-١٢-٢٠٢٥

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي