في خضم التحولات الإقليمية الكبرى التي تشهدها منطقتنا، يبرز اتفاق غزة كمحطة محورية ذات أبعاد إنسانية وسياسية تعيد تشكيل مسارات الصراع والتسويات في المنطقة. هذا الاتفاق، الذي يتضمن ثلاث مراحل رئيسية: وقف إطلاق النار، تبادل الأسرى، وإعادة الإعمار، يعكس إمكانية التعامل مع الأزمات عبر الحوار الجاد والحلول التدريجية التي تراعي المصالح الدولية والمحلية، بعيدًا عن فرض الحلول بالقوة.
في المقابل، يظل اليمن غارقًا في تعقيداته الخاصة، حيث تمثل خارطة الطريق الأممية لليمن فرصة لإعادة الاستقرار وفتح مسارات للحل السياسي والاقتصادي. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل تأثيرات اتفاق غزة، حيث قد تستلهم جماعة الحوثي منه نموذجًا لتحقيق مكاسب مشابهة، سواء بتقديم أنفسهم كجزء من محور المقاومة أو عبر السعي لفرض شروط جديدة تعزز موقفهم السياسي والاقتصادي.
تحليل انعكاسات اتفاق غزة على خارطة الطريق الأممية في اليمن يفتح الباب أمام فرص واستشراف تحديات. من جهة، يمكن أن يسهم هذا الاتفاق في تعزيز الجهود الدبلوماسية والدعم الدولي لإعادة الإعمار في اليمن بعد الاتفاق والقبول بإنهاء الحروب اليمنية. ومن جهة أخرى، يثير القلق من احتمالات استغلال الحوثيين لهذه التطورات لتحقيق مكاسب مؤقتة دون الالتزام بتنفيذ البنود المتفق عليها.
اتفاق غزة يقدم نموذجًا يمكن استلهامه لتسويات النزاعات، لا سيما في الحالات التي تتشابك فيها الأبعاد السياسية والإنسانية. في الحالة اليمنية، يمكن استخلاص عدة فرص لتحريك خارطة الطريق، منها تعزيز الدعم الدولي من خلال إقناع المجتمع الدولي بأهمية تقديم مساعدات إنسانية واقتصادية لليمن. نجاح دول مثل قطر ومصر في دعم إعادة الإعمار في غزة يُظهر إمكانية تطبيق نهج مماثل في اليمن، بما يركز على تحسين الأوضاع الإنسانية كخطوة أساسية نحو السلام.
إلى جانب ذلك، فإن تنفيذ خارطة الطريق على مراحل متدرجة، بدءًا بتثبيت وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وتحسين الأوضاع الاقتصادية، يمثل فرصة لبناء الثقة بين الأطراف المتنازعة. تحسين الأوضاع الإنسانية من خلال فك الحصار عن تعز، وزيادة مساهمات المانحين لإخراج اليمن من أزمته الإنسانية، يمكن أن يعزز فرص التهدئة ويخفف معاناة الشعب.
لكن في المقابل، يجب الحذر من المخاطر التي قد تواجه خارطة الطريق. أبرز هذه المخاطر هو نكوص الحوثيين عن الالتزامات، وهو ما تكرر في اتفاقات سابقة مثل اتفاق استوكهولم. هناك أيضًا احتمال استغلال الدعم المالي والإنساني لتمويل أنشطتهم العسكرية بدلاً من تحسين حياة المدنيين. ومن المخاطر كذلك محاولة الحوثيين تصدير أنفسهم كطرف شرعي يُمثل المقاومة، ما قد يؤدي إلى تعميق الأزمة بدلًا من حلها.
لضمان نجاح خارطة الطريق الأممية، يجب وضع آليات صارمة للتنفيذ والمتابعة. يتطلب ذلك إشراك شخصيات أكاديمية واجتماعية ونقابية يمنية إلى جانب دعم أممي وإقليمي من دول مثل السعودية وعُمان. تشكيل لجان دولية مستقلة لمراقبة تنفيذ الاتفاق، مع تقارير دورية تحدد مدى الالتزام، يعتبر أمرًا ضروريًا. كما يجب فرض عقوبات تلقائية على أي طرف يخل بالتزاماته، تشمل تجميد الأصول وحظر السفر، وملاحقتهم في المحاكم الدولية، لضمان الالتزام الكامل.
إضافة إلى ذلك، ينبغي إنشاء صندوق دولي لإدارة أموال الرواتب والمساعدات بإشراف أممي مباشر، ما يضمن عدم استغلالها لأغراض غير إنسانية. التحركات السريعة لتوفير الدعم الاقتصادي وإعادة الإعمار تُعد وسيلة فعالة لتعزيز الثقة في خارطة الطريق وتقليص فرص النكوص عن الاتفاق.
يُظهر اتفاق غزة دروسًا ملهمة، لكنه يضع أيضًا تحديات تتطلب تعاملًا حكيمًا وحازمًا. نجاح خارطة الطريق الأممية في اليمن يعتمد على وضوح الأهداف والإرادة السياسية للأطراف المحلية والدولية، مع ضمانات لإبقاء المركز القانوني للسلطة الشرعية، ومنع أي محاولة لاستغلال الاتفاق لتحقيق مكاسب قصيرة المدى من قبل الحوثيين. فالحوثيون قد يسعون لاستثمار هذا النموذج ليظهروا بمظهر المنتصر، لكن التعامل بحزم وبمبادرات سياسية واقتصادية مدروسة من قِبل الحكومة الشرعية وحلفائها الإقليميين سيضمن أن تسير خارطة الطريق نحو تحقيق سلام شامل ومستدام.
-->