عبدالرقيب عبدالوهاب.. لماذا اغتيل بطل السبعين؟!(15)

توفيق السامعي
الجمعة ، ٠٦ ديسمبر ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٥٣ مساءً

 

عهد ما بعد عبدالرقيب

 

لقد تم اغتيال القائد عبدالرقيب عبدالوهاب مرتين؛ مرة الاغتيال الحسي الجسدي، ومرة الاغتيال المعنوي، وبتصفيته ورفاقه إنما تم القضاء على عمود الجمهورية (الجيش المؤسسي المهني)؛ فقد تم تشويهه وتشويه نضاله من قبل شانئيه حتى لا يذكر بأي دور إيجابي في سبيل الوطن، وكذا تجاهل نضالاته المتعددة من قبل زملائه الضباط ومن قبل مدوني أحداث الثورة وأحداث ومحطات كسر الحصار، ونحن نقرأ مذكرات وكتب كثير منهم نجد أن كل واحد ينسب النصر لنفسه وتجاهل الآخرين، وبالذات عبدالرقيب كرئيس لهيئة الأركان، الذي صال وجال في تلك المعارك الفذة، إلا ما اضطروا إليه من التدوين من خلال السياق الذي لا يستطيعون تجاوزه، ويا للأسف!

وللإنصاف أيضاً فإن كان هناك أي ارتباطات حقيقية ومؤكدة لعبدالرقيب وزملائه، بما أشيع عنهم أن لهم بعض ارتباطات بقيادات الجبهة القومية الجنوبية المدعومة من مصر بما كان يسمى الجبهات التخريبية، فإنه كان يتحمل جزءاً من المسؤولية فيما حدث، ولكن من خلال تحليل الأحداث والتواصلات ومآلاتها نجد مبالغات كبيرة في الأمر؛ فلو كان لعبدالرقيب تلك الأجندة لكان استقر في عدن أثناء عودته من الجزائر خاصة وقد هزم مشروعه من ناحية يمكنه الخوض في معارضة سياسية وأحداث عسكرية من محافظته التي هي على خط تماس بالجنوب لتعزيز تلك الارتباطات وتسهيل أجنتها وتحركاته ورفاقه، ومن ناحية أخرى فإنه سيترتب عليه مواقف جنوبية تكون ظاهرة إعلامياً وسياسياً تستنكر وتجرم مقتل عبدالرقيب وزملائه، ومن ناحية ثالثة فقيام جزء من فرقتي المظلات والصاعقة بمحاصرته في بيت الخولاني، كما يذكر الإرياني والخولاني، ينفي هذه التهمة عنه، وإلا كيف نفسر انقلاب هاتين الفرقتين شديدتي الولاء له بالانقلاب عليه وهم القائلون إنه كان ينوي سحبهما للجنوب؟! 

وإن كان هناك ارتباط لعبدالرقيب بعدن فإن الصف الجمهوري كان كله مرتبطاً بالخارج كمصر وسوريا والسعودية والعراق والاتحاد السوفييتي، فلماذا حرام عليه هو وهو مرتبط بشطر الوطن الثاني وليس حراماً على البقية ارتباطهم بدول خارجية؟!

يشير الشعيبي ببعض الإشارات إلى بعض التأثيرات المتطرفة لمنظمة حركة القوميين العرب على تنوع تشكيلة تكتل الضباط المرتبطين بعبدالرقيب، لكنه ليس السبب الكلي ولا الدافع الأكبر لاقتتال الطرفين، فيقول: بخصوص اقتتال إخوة السلاح في حرب أغسطس 68، فإنه بالرغم من شراسة واستعداء القوى الجمهورية المحافظة للعناصر الثورية الجديدة التي قادت حرب السبعين يوماً، إضافة إلى تنوع تشكيلة هؤلاء المناضلين [يقصد طرف عبدالرقيب]، وتأثير بعض النزعات المتطرفة لقادة وعناصر منظمة حركة القوميين العرب الذين يعتبرون امتداداً لنفس جورج حبش ونايف حواتمة وقحطان الشعبي وعبدالفتاح إسماعيل –بتواجدهم داخل العملية الاقتتالية تلك- فقد بذلت محاولات جادة لاحتواء ذلك الخلاف، وإعادة الثقة بالفريق العمري، وخلق جسر علاقات جديدة معه بهدف قطع دابر النزعة الطائفية، وإنجاز الحد الأدنى من التحالف الوطني ضد العدو المشترك الذي كان على الأبواب.

وقوة هذه الشهادة نابعة من كون صاحبها شخصية يسارية معاصرة للحدث وفاعلة في طرف العمري أحد أقطاب ذلك الصراع، يحمل فيها جزءاً من المسؤولية لأولئك المتهمين باليسارية، فضلاً عن أنها تعزز ما ذهب إليه الإرياني باتهام طرف عبدالرقيب أنه مدفوع من الجنوب في تلك الأحداث؛ فالإرياني كان يحمل عبدالرقيب بشكل قاطع تلك الأحداث، بينما لا يوافقه آخرون.

وإذا كان لعبدالرقيب علاقات مع الجنوب مثلاً كالجانب الحزبي، وتم مؤاخذته عليها كأكبر دوافع الإزاحة والتصفية فإن الإرياني تعامل مع هذا الجانب بمكيالين؛ فبعد تصفية عبدالرقيب، وفي عهد الإرياني أيضاً، قام المقدم إبراهيم الحمدي بالاتصال بخلايا حزبية متصلة بالجنوب بعد الانقلاب على قحطان الشعبي وذلك في عام 1969 لدعمه في الشمال لولا أن القيادة الجنوبية لجديدة تحفظت عن أي دعم انقلاب آخر في الشمال، وتراجعت عن دعم أي مشروع انقلابي في الشمال لتحسين العلاقة بين الشطرين (بدايات الحمدي: لطفي نعمان صـ66)، ولم يتخذ أي إجراء ضد الحمدي كما اتخذ بحق عبدالرقيب!  

لم يكن عبدالرقيب ومن معه ملائكة مبرئين حتى يتم تبرئتهم من كل تلك الأحداث، خاصة وأن لها رواة كثر من داخل السلطة وخارجها، فقد كانوا شباباً نزقين متطلعين ومتشددين ثورياً تنقصهم الحكمة السياسية، كما فهمنا من خلال الكثير من الأحداث والروايات، كما كان ينقصهم الحامل السياسي والحاضنة الشعبية. 

وقد تم المبالغة كثيراً في عمالتهم للجنوب وأعتبرها تهمة ملصقة بهم كذريعة لمواجهتهم والتخلص منهم، ومبرراً لكيفية تقديمهم كبش فداء في سبيل المصالحة، وتم دفعهم دفعاً للبدء بتفجير الموقف عسكرياً وإلا فقد كان الطرف الآخر مستعداً لتفجيره قبلهم عليهم، وقد كانت هناك بعض محاولات لإنهاء الصراع، ولكن بعض التعنت في عدم تقدير الموقف والوقوف على الأبعاد الكثيرة يحمله جزءاً من المسؤولية، ولكن ليس بذلك القدر من التحامل عليه من السلطات حينها وتضخيم خطره وحزبيته، خاصة وقد بدت هي متعنتة أيضاً ولها أهدافها وغاياتها من إنهاء تلك الثلة العسكرية المهنية التي أبلت بلاءً حسناً في الدفاع عن صنعاء وهو ما يعترف به الإرياني بقوة، وبغض النظر عن موقفه سلباً أو إيجاباً في إنهاء أهم وحدات الجيش والتخلص منها، بالقول: "كنت حزيناً ومتألماً، وكنت مشفقاً على الصاعقة والمظلات ولهما ما لهما من فضل لا ينكر في حماية الجمهورية والذود عن صنعاء، وحانقاً عليهم في نفس الوقت أن قد جرهم الغرور الحزبي ونظريات العنف الثوري إلى أن يرتكبوا جريمة وطنية يقوم بها ثوار ضد ثورتهم"!

يحمل الشعيبي القدر الأكبر من مسؤولية ذلك الصراع والنعرات الطائفية "عناصر الجمهورية المحافظة"، وبقدر أقل طرف العناصر الجديدة، فيقول:

العناصر الجمهورية المحافظة، التي كانت مسؤولة –بقدر أوفر- عن عملية الشقاق والخلاف داخل الصف الوطني، بالأخص فيما يتعلق بجريمة آثار النعرة الطائفية واستخدامها سلاحاً في ميدان الخلاف والصراع السياسي الذي يتحمل قادة وزعماء القوى الوطنية الجديدة جانباً من تلك المسؤولية لخرقهم قانون وأخلاقيات اللعبة السياسية والإقدام على رفع درجة وصايتهم على الوطن حد التفرد.

وعموماً فقد كانت حادثة وقصة عبدالرقيب ورفاقه نتيجة طبيعية لانهزام مشروع عبدالناصر في اليمن، هذا إن كان أولئك الشباب مرتبطين بعبدالناصر الذي لم ينبس ببنت شفة رداً على مقتلهم، وملء المنتصر لفراغ الهزيمة؛ الهزيمة التي اعترف بها عبدالناصر للعمري حينما سأله أن لا يترك مشروعه في اليمن الذي ابتدأه، وأن لا يتراجع عن دعم الثورة، فقال له بوضوح: "أنا اتهزمت في اليمن"، مع ما تحمله هذه العبارة من خفايا كثيرة، لم يقلها أو يفصل فيها عبدالناصر، ليترك الاستنتاج وتفسير المآلات للقيادة الجديدة، وقد كان السادات وعبدالحكيم عامر أحد أدوات هزيمة عبدالناصر في اليمن، كما قال عن ذلك من تربطهم علاقات بالطرفين من اليمنيين.

بتصفية أولئك الشباب كسر باب من أبواب الجمهورية الحصينة، ليلج اليمن إلى عهد جديد قديم بين الإمامة والجمهورية، نظام يلبس الزي والشعار الجمهوري والفعل فعل إمامي متخفف من بعض الأشياء، نظام بين الدولة والإقطاعية، بعيداً عن المؤسساتية النظامية، وأقرب إلى العشوائية تتحكم فيه المشيخات وتحل محل القيادات المدراء والمهنية والكفاءة، وكأننا ما تحررنا من الإمامة، وأصبح لكل مؤسسة ومنطقة إمامها، وهو ما فسره الشاعر الفضول حين سئل عن الدولة والإمامة قال: "صارت الإمامة تصرف عندنا كما تصرف البقش؛ في كل مكان إمام وله سعر".. 

فبعد تصفية عبدالرقيب وزملائه صفا الجو لخصومه في الطرف الآخر، وذهبوا يتقاسمون الكعكة في القوات المسلحة وتسنم المناصب المختلفة التي قدمت لهم كمكافأة على هزيمته ومن ثم تصفيته؛ فقد تم تعيين حسين المسوري رئيساً للأركان في أكتوبر عام 1969، وتم تعيين مجاهد أبو شوارب قائداً للواء المجد، وتم تعيين علي أبو لحوم قائداً للواء العاصفة، وتعيين علي سيف الخولاني رئيساً للأركان، والإرياني يسلم النظام للمشايخ.

 فقد صار شيوخ القبائل هم الحاكمين الحقيقيين في البلاد المتحكمين بالقاضي الإرياني، وكان سبباً للانقلاب عليه من قبل الحمدي في 13 يونيو عام 1974م.

وعلى الرغم من أن يحيى المتوكل كان أحد الشخصيات الهامة التي عملت في نظام الإرياني، إلا أنه يصفه أنه سلم الحكم لزعماء القبائل، فقال: "في الفترة 1971 وحتى العام 1974 منح القاضي الإرياني سلطة واسعة لزعماء القبائل فتحركنا لوضع حد لحكمه. كنت مع مجاهد أبو شوارب على تواصل وثيق من أجل الإعداد لحركة تغيير في اليمن. أتينا بالمقدم إبراهيم الحمدي رئيساً وعُيِنتُ عضواً في مجلس قيادة هذه الحركة، فضلاً عن دوري في وزارة الداخلية اليمنية". (مقابلة شخصية مع الكاتب اللبناني فيصل جلول، العربي21، https://arabi21.com/story/1356542/).

أدى تحكم شيوخ القبائل بالدولة إلى غياب المؤسسات والفوضى المالية والإدارية، وكان شيوخ القبائل والجيش والمحافظون يستنزفون مالية الدولة دون تنظيم ودون عائدات، وغياب هذه المؤسسات وإداراتها مهنياً هي ما سماها البردوني "أشلاء معلقة".

 يقول البردوني: لم تشكل الثورة جهازاً إدارياً، وإنما شكلت أشلاءً معلقة على مشاجب جديدة، وكانت تنكشف هذه الانتهازيات كل يوم للجماهير المضحية عن حاجة إلى التغيير، غير أن دخان الحرب كانت تغطي وجوزه النفعيات البشعة، وتشغل الثوار عن التساؤل في اختيارهم لتلك العناصر، وعن نقص معرفتهم بها قبل الاستيزار [توليتهم الوزارات]، وكان بعض المسؤولين يرفضون هذا التصرف، ولكنهم كانوا يؤثرون تآلف القلوب على إلحاق العقوبات، نظراً للأحوال الحربية، على أساس أن الجمهورية تواجه من العداوات ما فيه الكفاية؛ فقد يلجأ الوزير المعزول إلى الجبهة المعادية للشعب! أ هـ

بعد تصفية وتشتيت قيادة قوات الصاعقة والمظلات، وبعض الشخصيات اليسارية، بعد عبدالرقيب وتصاعدها حتى نهاية السبعينات، وبعد اغتيال الرئيس الحمدي، تحولت إلى جبهة صدامية مع السلطات وخاصة في المناطق الوسطى، وشهدت المناطق أعمالاً تخريبية واغتيالات متعددة راح ضحيتها الكثير من الناس، منها ما كانت تقوم بها تلك الجبهة ومنها ما استغلته السلطات وقامت به وألصقته بالجبهة.

وكانت هذه الجبهة على تنسيق وتمويل من السلطة اليسارية في الجنوب، بعد عبدالرقيب الذي لم يكن في عباءة الجنوبيين، للقيام بتصفية شخصيات تصفها باليمينية أو الراديكالية سواء في الداخل اليمني أو في الخارج كاغتيال رئيس الوزراء القاضي الحجري الذي كان يقف منها موقفاً متشدداً.

ما ترتب على تصفية تيار عبدالرقيب بعد ذلك هو الشرخ الاجتماعي الذي حصل في اليمن بين تنوعه الثقافي والسياسي والاجتماعي، وساد عدم الثقة بين جميع فئاته، وغرس الكثير من الأحقاد التي ظلت تأثيراتها إلى اليوم، وستظل كذلك إلى بعد إذا ما تم معالجة تلك الشروخ وردمها، وفي الوقت الذي كنا ننتظر أن تلتئم تلك الجراحات إذا بالهوة تتسع، والجروح تتعاظم بانقلاب المليشيا الحوثية التي مثلت التيار الإمامي الذي غذى تلك الفتنة والانقسام ونفذت منها إلى الانقلاب، واجتمعت بتحالف الحوثي وصالح العنصريتان الطائفية والمناطقية، وقد لمستها اليمن جميعاً في الغل والغيظ الذي صبوه على تعز على وجه الخصوص وتركوها شبه مدمرة من جميع النواحي، ولا زالت التسجيلات لصالح تردد صدى تحريضاته عليها "دقوهم بالقناصات"!

....يتبع

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي