عبدالرقيب عبدالوهاب..لماذا اغتيل بطل السبعين؟! (الحلقة 13)

توفيق السامعي
الأحد ، ٠١ ديسمبر ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٤٩ مساءً

 

سلاح الطائفية والمناطقية

لم تزل رواسب الإمامة في اليمن بعد الثورة بأوجه متعددة، وحتى في الصف الثوري الجمهوري، لم يتخلص منها اليمنيون تماماً؛ لأن الجميع دخل مرحلة الصراعات البينية الجانبية، ولم يتم تبني مشروع حقيقي ينهي مظاهر الإمامة بعد الثورة والمتمثل بالعنصريات الثلاث؛ الطائفية والطبقية والمناطقية، وكانت من أهم جمرات الإمامة المختفية تحت الرماد لتتفجر في أوقات مختلفة لاحقة، وصولاً إلى الإنقلاب الكبير في 21 سبتمبر 2014.

يقول عبدالغني مطهر عن هذا الأمر:

إستغل المتآمرون [انقلاب 5 نوفمبر] أدنأ سلاح حارب به الأئمة شعب اليمن ليمزقوه إرباً، ألا وهو سلاح التفرقة الطائفية بين أبناء الوطن الواحد من زيود وشوافع، فبدأوا يوسوسون في صدور الناس ويرددون همساتهم الخبيثة في كل مكان بأن الشوافع قد أصبحوا هم المسيطرين على مقاليد الأمور في القوات المسلحة، وأنهم سوف يقضون على جميع الزيود.

وهكذا استمر النفخ في نار الفتنة التي أشعلوها، والتي كانت تباركها وتؤججها العناصر الملكية والرجعية في الخارج والداخل لتحقق بالتمزق الداخلي بين أبناء الوطن الواحد ما لم تستطع تحقيقه بقوة السلاح، وسرعان ما انضم حسن العمري إلى فريق المتآمرين الحاقدين متأثراً بالنعرة الطائفية التي نجح المتآمرون في إثارتها إثر خلاف ومشادة افتعلها في الحديدة العقيد علي سيف الخولاني، الذي رفض من قبل تحمل مسؤولية الدفاع عن صنعاء مع الرائد عبدالرقيب عبدالوهاب قائد النصر في حرب السبعين يوماً، والرائد علي مثنى جبران قائد سلاح المدفعية.

وقد استمر المتآمرون الذين عادوا بعد النصر من مخابئهم في الدول العربية وفي القرى يصعدون من حملاتهم الطائفية التي عمت الوحدات العسكرية والمحافل والتجمعات العامة وفي المساجد وفي خطب الجمعة، حتى نجحت حملتهم الخبيثة في غرس بذور الكراهية في نفوس العديد من الإخوة في صنعاء نحو كل شافعي.

وكان طبيعياً أن يكون الشر والغدر هو الحصاد المشؤوم لتلك المؤامرة الدنيئة، وقد ظهرت بوادر ذلك الحصاد الخبيث حين امتدت في الظلام أيدي آثمة تطلق رصاصات غادرة في ميدان التحرير بصنعاء على الرائد محمد مهيوب الوحش، قائد المظلات، فتغتال بطلاً من أبطال حرب السبعين.أ هـ

يعترف الإرياني أن الإذاعة والإعلام ساهم في تذكية هذه الحملات الطائفية والتعبئة ضد (الشوافع)، في جزء من رسالته إلى الفريق العمري واللواء حمود الجائفي والشيخ الأحمر، وإن لم يذكر (الشوافع) بهذا اللفظ إلا أنه كان معلوماً بالضرورة سيطرة جهة المشايخ والعمري على الإذاعة وإدارتها وبالتالي معرفة مع من وقفت وسائل الإعلام والإذاعة والخطب في المساجد وإثارة النعرات الطائفية والعنصرية المناطقية في صنعاء وضد من. 

يقول الإرياني: "بقي أن أقول لكم: إن الجريمة كل الجريمة من الآن فصاعداً هي إثارة النعرات الطائفية، سواء في الإذاعة أو في الصحافة، أو في الكلام الذي يطلقه الناس في الشوارع ليخدموا به الملكيين في تمزيق الصفوف. إن هؤلاء الناس اللامسؤولين والذين لا يهمهم إلا إثارة الفوضى ما أجدرهم أن تقطع لسان كل من يطلق العصبيات الطائفية فاعطوا الإعلام تعليمات صارمة وحازمة في هذا الصدد، واعطوا الأمن أيضاً التعليمات نفسها للقبض على كل من يثير النعرات الطائفية، سواء كان من الجنوب أم من الشمال، وقد أشرت إلى مدير الإذاعة عن بعض ما أوجعني سماعه من التعليقات السيئة وغير المسؤولة".

يتفق الجميع من الكُتّاب ومدوني أحداث تلك الفتنة أن هناك رؤوسَ قوىً تقليدية أذكت ذلك الصراع المذهبي المناطقي في أحداث 24 أغسطس عام 1968م، وأن السبب يعود بالكره على عبدالرقيب ومن معه أنه من القيادات الشابة العسكرية التي تربت ونشأت وبعيداً عن العرف التقليدي للعسكريين المترعرعين في جيش الإمامة، وأنه من مناطق خارج المنطقة الزيدية التي ينبغي لها السيطرة على الجانب العسكري تحديداً، غذتها العناصر الإمامية في الجيش والسلطة التي لم تتخلص من ثقافة الحقبة البائدة.

كانت نظرة العمري للقيادات العسكرية الشابة والمتمرسة في التدريب العسكري الحديث والمنضبط، وخاصة التدريب الخارجي الجمهوري بعيداً عن أي تأثير قديم للعناصر الإمامية أو القوى التقليدية العشائرية التي كان العرف فيها أن يتم تعيين القيادات العسكرية الكبيرة منها، هو ما يحصن المعركة من الاختراقات الإمامية بعد ما خبروا بعضها بعد الثورة من التي غدرت بالثورة وكانت تعمل عملاً مزدوجاً؛ جمهورية نهاراً وإمامية ليلاً، وهذا التحصين هو ما تتطلبه المعركة في التصدي للثورة المضادة والمحاصرين الإماميين مع تدفق الأموال لهم المغرية لكل ضعيف.

غير أن العمري وقف موقفاً متصلباً من مطالب عبدالرقيب في إلغاء التغييرات للقادة الذين كان لهم فضل فك الحصار عن صنعاء، ولو بشكل مؤقت، رافضاً الاستجابة له مما أدى إلى الصراع، وكان بإمكانه تفادي تلك النقطة، لكن حملة التحريض والتأثري عليه كانت قد بلغت منتهاها وغايتها بحجة إطاعة الأوامر العسكرية، بينما لم يستطع إنفاذ تلك الأوامر على الجانب الآخر.

ونحن نقرأ قصة نهاية بطلي حصار السبعين عبدالرقيب عبدالوهاب وأحمد عبد ربه العواضي، غدراً ووحشية، نجد رواية مقتلهما واحدة، وبأسلوب واحد؛ وهي أنهما يقاومان من غرفة حجزيهما بعدما يقومان باستلاب سلاح أحد الحراس ومن ثم قتله ومقاومتهما المحاصرين، وتنتهي عليهما الذخيرة فيقتلان صبراً دون استسلام، مما يدل على أن مُخرِج القصتين واحدة، وأن عملية مقتلهما غامضة ومحبوكة من جهة الاغتيال ذاتها لها حيثياتها وأبعادها المختلفة؛ يقتل الشيخ العواضي بتهمة قتل مواطن، وتحرك له كافة أجهزة الدولة للقبض عليه وتصفيته، بينما العمري تم إخراجه بسلام وعليه نفس التهمة!

الشيخ أحمد عبدربه العواضي كان من أنصار السلال المؤيدين له، وقد أبرق له برقية مستعجلة وهو في بغداد أن يعود فوراً وخلال 24 ساعة، محذراً إياه من انقلاب وشيك عليه، لعلمه بتدبير الانقلاب على السلال، ويبدو أن هذا أحد أسباب نقمة انقلابيي 5 نوفمبر 1967 عليه فيما بعد، وأحد دوافع اغتياله، ولكن بعد تدبير حبكة معينة له في اتهامه بالطائفية ومحاسبته لقضية قتل أحد المواطنين، وهو نفس المصير الذي سيواجهه العمري فيما بعد ولكن ليس بالاغتيال بل بالنفي خارج البلاد.

ورغم ذلك الصراع بين القوى الجمهورية، حاولت الإمامة أن تستغل الوضع وتزحف بجحافلها على العاصمة صنعاء وبلغت بيت معياد، وهنا صوبت جميع تلك القوى المتصارعة أسلحتها وقذائفها إلى صدور العناصر الزاحفة وأوقعت بها قتلاً ذريعاً، وبلغت حداً أن اشتبك الجميع بالسلاح الأبيض وجهاً لوجه، وتم دحر تلك المجاميع من العاصمة ومنيت بهزيمة منكرة، ويئست بعد ذلك من العودة للحصار أو القضاء على الجمهورية.

لقد كان الثابت الوحيد عند الجميع في تلك الظروف والأحداث هو الدفاع عن الجمهورية والثورة، وأن خذلانها خط أحمر، وبعد دحر الإماميين عادت تلك القوى للصراع مجدداً! 

ما أخلص إليه في هذه الحادثة هو أن عبدالرقيب كشاب ثوري من الصقور بدأ يكوّن مركز ثقل كبير في الجيش والمعادلة السياسية لا تروق لكثير من الجهات داخلياً وخارجياً، وتخوفت من تنامي قوته العسكرية والثورية وشعبيته العامة وخاصة أوساط المقاومة الشعبية، وبدأت سمعته بالتصاعد بعد نجاحه في التصدي للحصار، وبدأ وزنه يكبر يوماً بعد آخر داخل القوات المسلحة إلى درجة أنه تم التخوف منه في صناعة الأحداث أو بروزه كزعيم جديد داخل اليمن وهو في مقتبل العمر لا تنقصه الشجاعة ولا الخبرة ولا التشدد الثوري، والتي هي عوامل ناهضة وكبيرة بالشخصيات والدول وتصدر الزعامات، لكن كانت تنقصه الخبرة السياسية والرزانة والحلم في الرأي والتصرف؛ فقد غلب عليه النزق الشبابي الثوري، وإن كان هذا النزق الثوري من الأشياء المحمودة عند صناعة الدول والجيوش وخوض المعارك.

ذلك التأثير كان قد ألمح إليه رئيس الوزراء محسن العيني، في كتابه الرمال المتحركة، عند الانقلاب على الرئيس السلال، بالقول إن "ضباط الجيش المعاملين، وبخاصة في الصاعقة والمظلات، أول من نادى بضرورة الانقلاب والإطاحة بالرئيس السلال وحكومته، وهذه حقيقة يعرفها كل من كان في صنعاء في تلك الأيام".

يضيف العيني: "خروج الرئيس السلال، وإصرار ضباط الصاعقة والمظلات؛ هذان العاملان بالذات كانا السبب الرئيسي والحاسم في حركة 5 نوفمبر 1967، وكل من يدعي غير هذا يجافي الحقيقة ويظلم التاريخ، أو يعرف ما لا أعرف.

لقد تردد ضباط الجيش على منزلي في الطبري، وألحوا وأصروا على ضرورة الموافقة على الحركة والاشتراك فيها. وجاءني المرحوم النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب وقال: إذا أردتم الحفاظ على الجمهورية فلا بد من إطاحة الوضع القائم.

وكما ترددوا علي وعملوا على إقناعي، ترددوا على الرئيس الإرياني وغيره من رجالات البلاد [لم يذكر الإرياني مساندة الصاعقة والمظلات للانقلاب]، وكنا أكثر الناس في صنعاء تردداً وتهيباً بل وتهرباً من تحمل المسؤولية في مثل تلك الظروف العصيبة الخطيرة".

لكن النعمان الأب يذكر عكس ذلك تماماً؛ أن مجموعة من الجيش (يقصد طرف عبدالرقيب) "مضللة بالشعارات مستمتعة بها، ترى أن التحدث أو الإساءة إلى الجيش المصري أو الحديث عنه يفضي إلى القتال، وهكذا ستدور حرب أهلية"؛ أي أنهم لم يقبلوا انتقاد الجيش المصري والمرتبطين معهم فضلاً عن الانقلاب عليهم!

يقول النعمان: "كان أول شيء هو تنحية السلال لأنه كان يمثل ركيزة للقوى الخارجية داخل اليمن، وقد ضاقت به اليمن ذرعاً، وعملوا على إخراجه من الحكم باعتباره تابعاً للقوات المصرية، وبعد أن خرجت هذه القوات لا بد أن يخرج ركائزها من السلطة" (مذكرات النعمان: صـ126).

العيني كان قد أشار إلى نقطتين في غاية الأهمية لقوة الصاعقة والمظلات في إطار السياق عن انقلاب 5 نوفمبر، دون أن يلقي لهما بالاً في موازنة الأحداث والقوى، وهما، الأولى: أن الصاعقة والمظلات تنامت قوتهما سريعاً خلال العامين الماضيين ولم تعاني أي تسريح أو إبعاد أو اعتقال لضباطها، أو إضعاف، كما عانت الوحدات الأخرى.

الثانية: حقيقة أخرى يعرفها كل من كانوا في صنعاء، وهي مشاركة القوى الوطنية الشابة واندفاعها وحماستها للتغيير وليس فقط تأييدها لها، وقد أمضت صنعاء ثلاثة أيام ولا حديث لها إلا حديث الانقلاب!

بل إن العيني والإرياني والمشائخ الآخرين أوضحوا السبب الحقيقي للصدام أن عبدالرقيب ومن معه يسعون إلى الانقلاب على الإرياني والعمري بتأثير من الجنوب، وأنه سيستولي على السلطة، وهذا شكل دافعاً لتصفيته والقوات التابعة له، وهو ما يصادم قول العيني نفسه أن هؤلاء الضباط ووحداتهم العسكرية كانت المصر الأكبر على الانقلاب على السلال ودعم الإرياني، وأنه كان لهم الدور الحاسم في التصدي للإماميين في حصار السبعين وكسره.

يقول العيني: "حركة 5 نوفمبر 1967 التي شارك فيها بصورة أساسية ضباط الصاعقة والمظلات، وهم على صلة بحركة القوميين العرب ويحكمون عدن، وساهم الكثير من الشبان التقدميين الذين بدا أنهم كانوا يتصورون أنهم سيستولون بها على الحكم وعلى الشمال، وأن الشخصيات التي تصدرت سواء في المجلس الجمهورية أو في رئاسة الوزارة [الوزراء] لن تكون إلا واجهة مؤقتة يسهل التخلص منها"

فهذه العوامل من أهم عوامل الخشية من الرجل والحؤول دون وصوله إلى مرحلة التأثير الكلية في الجيش والدولة، إلى جانب عوامل أخرى سردناها سابقاً، ويمكن أن يكون في هذا الجانب قد سبق الحمدي في مشروعه، وأن الحمدي حصد ما زرعه عبدالرقيب لا أكثر.

وأيضاً فقد قالها عبدالرقيب للإرياني بصريح العبارة: نحن نريد جيشاً وطنياً مهنياً لا مراكز قوى، وأنت ستظل على حالك رئيساً للجمهورية لا يمكن المساس بك، وهذا ينفي تهمة الانقلاب عليه.

 

....يتبع

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي