كان التكفير ولا يزال الأداة الحادة التي يُذبح بها الإبداع والخيط الذي يُخصى به فكر المفكرين، والحبل الذي يُشنق به المتمردون على المرويات التاريخية المكذوبة الحشو المدسوس الذي ملأ كتب السير ، الفقه ، الحديث والتاريخ قديمه والمعاصر..
الرواية التاريخية والسيرة المزيفة والحديث الموضوع والقول المؤول هي الأدوات التي اختطتف بها الكهنوت الإمامي عقول اليمنيين وأغواهم بها قرونا، وسخرهم لخدمته أدهارا، يقتلهم ببعضهم وينهب ببعضهم البعض الآخر بل يعذبهم ويحقر من شأنهم ويطعن في شرف الواحد منهم وعرضه.
بدأت القصة من وقت مبكر منذ أن وطأت أقدام الرسِّي خمائل أرض صعدة، استمرت وامتدت إلى ما حولها من المدائن والشعاب، وفي مراحل كثيرة كانت تنتشر ثم تنزوي وتعود إلى قعرها الأول، بحسب قوة الدولة المناوئة لها أو ضعفها، لديها من القدرة على إفرازات غشاء المداهنة والسكون الذي يتحوصلوا بداخله كجرثومة المعدة القاتلة عندما تشعر بخطر العلاج، وتقوم بتفكيك ذلك الغشاء عندما تتهيأ وتجد الظروف المناسبة لعودتها ثم تخرج للفتك باليمنيين وتقتلهم من جديد..
ظاهرة قتل وتكفير أصحاب العلم والرأي والاجتهاد الفقهي والفلسفي حديث لا يتسع له فضاء المقام إذ أن إبادة الفرقة الزيدية "المطرفية" هدموا دورها، وقتلوا رجالها وسبوا نسائها وذراريها، وإحرقوا كتبها وموروثها العلمي والفلسفي، خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين في منطقة سناع جنوبي صنعاء، من قبل السفاح عبدالله بن حمزة وزمرته، كانت أحد نماذج القمع الفكري والقهر العلمي المريع، تعرضوا إلى أسوأ عملية قتل شهدتها اليمن، والتي ستظل حاضرة في ذهنية اليمنيين ونموذجًا أبرز للتكفير واستباحة لدماء المعارضين ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
ثم استمرت كموروث ثقافي مذهبي، بات فواهةً اجتماعيةً سوداء يغتلي في قلوب أصحاب المذهب الهادوي من اليمنيين، حتى بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر رعته سلطات الجمهورية التي اختبأت الفكرة في أحشاءها، الفكرة الهدَّامة التي كان يجب أن تُشنق قبل أن يُشنق من كانوا لها حاملين قبيل وإبان ثورة 26 من سبتمبر وما بعدها حتى الوحدة اليمنية..
ظل التكفير شبحًا وثعبانًا يلوح بالأفق فاغرًا فاه مبرزًا أنيابه يطارد كل من دخل بابًا من أبواب المعرفة الأدب، الشعر، التاريخ، علوم التربية، القانون، علم الاجتماع الفلسفة، وأراد بنور اطلاعاته أن يزيل ما علق بتراثنا من غبار وأن يمحو ما استقر في عقول الأجيال من ضلالات شلَّت حركته وأعاقت تفكيره وأقصته عن المجتمع..
تحول لاحقًا إلى محكمة تصدر الأحكام وسيفاً يُلوح به، يهدد بقطع الرؤوس، عانى من ذلك أديب اليمن الدكتور عبدالعزيز المقالح وشاعرها عبدالله البردوني وفيلسوفها أبو بكر السقاف وعالم الاجتماع الأول في اليمن الدكتور حمود العودي، وعالم التربية الدكتور محمد سرحان سعيد المخلافي، وكثير لا يتسع المقام لذكرهم هاجروا بعيدًا وراء البحار هربا وإنقاذًا لأرواحهم وحمايةً لعقولهم وما تحمل من مصابيح تبيد تبدد الفكرة وتزيل الظلام..
امتدادًا لذلك أصدروا حكم إعدام بحق الدكتور حمود العودي في العام 1986م على إثر دعوى احتساب قدمها بعض العلماء والمحسوبين على الجناح السلفي المتشدد، هرب على إثره بعد شعوره بالخطر على نفسه وتلقيه التهديدات بالتصفية وأدارت إدارات الدولة كلها ظهرها له وتركته نهبًا للذئاب.
أيُحكم بالإعدام على رجلٍ قال رأياً في التاريخ المزور فقط؟ أو انتقد ظاهرةً في أصلها ملغومة، أو صحح مفهوما مغلوطا عن الثائر مالك بن غوث العنسي؟ أو برأ الزعيم الوطني اليمني على بن الفضل من زيف التهم التي ألصقها به خصومه الإماميون الهادويون؟ على إثر محاربتهم وإسقاط دولهم وقولهم فيه ما لا يُصدِقهُ صاحب عقل راجح وتفكيرٍ سليم، غير أنها انطلت على أجيال من اليمنيين ورددوها أزمانًا جهلاً وظلم..
نجا العودي بنفسه وعِلمه وعقله إلى عدن ليعيش مدرسًا معززا في جامعة عدن، إلى ما بعد قيام الوحدة ثم عاد ليستأنف الحكم وحكموا ببراءته من تهمة الردة، بعد تقليم أظافر التكفير بعد الوحدة إلى حدٍ بعيد، ولولا الفكرة ذاتها ما تم التحريض على قتل الصحفي والسياسي سعيد الجناحي بعد الوحدة ونُصبت له الكمائن صباح عودته من محافظة إب إلى صنعاء في وادي الدليل نجا منها بأعجوبه.. فهل بمقدورهم إذا ما قابلهم الدكتور العودي اليوم أن يجيبوه صدقًا وعدلا، وسألهم بمرارة لماذا حكمتم عليَّ بالإعدام؟ لماذا أرعبتم أولادي أهلي وزوجتي، ودفعتم بي لترك وظيفتي مصدر رزقي والهرب إلى جنوب الوطن؟
هل تجلَّت حقيقة تشويه قادة التاريخ السياسي والعلمي اليمني، بعد قراءة ما أوردته كتب سيرة يحي الرسي والعياني وابن حمز والمطهر من شرف الدين، والطعن بأعراض اليمنيين طيلة عهودهم، واتهامهم بالكفر والفسق وانعدام الشرف وممارسة الرذائل، إبرازها في كتبهم هم، ونشرها اليوم بوضوح على كل المنصات ووسائل التواصل الصحفي والاجتماعي والقنوات الفضائية المقروءة والمرئية والمسموعة!
ومن الذي غرس فكرة التكفير في عقل المقبور على أحمد جار الله؟ وحرضه على قتل السياسي الفقيه الوطني المستنير مهندس اللقاء المشترك جار الله عمر؟، وإذا كتب له أن يطل من قبره اليوم وسئل لماذا حرضتم على قتلي ولماذا قتلموني؟ بماذا سيجيبون؟
وهل بمقدر جلادي ومجرمي السجون الذين عذَّبوا أصحاب فكرة تحرير الدولة والجمهورية من بقايا عفن الإمامة وطغيان القبيلة وتعصب الطائفة والمذهب وحمايتها من عودة فلول الإمام، إذا ما سألوهم لماذا بوحشية عذبتمونا وألقيتم بنا في برك الثلج والملح بعد سلخ الجلود وخلع الأظافر والتعليق على مشانق التعذيب؟
وهل بمقدور كل أولئك الرد على "جوَّاب العصور" الذي خَزَنَ حب اليمن في قلبه وحمل مآسيها على ظهره وقبور ثوارها في مآقيه الغائرة حينما سجنوه وأدمى القيد ساقه حيث قال:
هدني السجن وأدمى القيد ساقي... فتعاييت بجرحي ووثاقي
وأضعت الخطو في شكوك الدجى... والعمى والقيد والجرح رفاقي
ومللت الجرح حتى… ملني... جرحي الدامي مكثي وانطلاقي
سوف يفنى كل قيدٍ وقوى... كل سفاحٍ، وعطر الجرح باقي
-->