من هو هذا الوسيط يا فخامة الرئيس؟

د. علي العسلي
الجمعة ، ٠٦ يونيو ٢٠٢٥ الساعة ١٢:٣٦ صباحاً

 

في ثقافة الرمز، لا يُعدّ الطير مجرّد مخلوقٍ يحلّق في الفضاء، بل يحمل في جناحيه دلالاتٍ ورسائل، قد تغيّر مجرى الأحداث وتعيد تشكيل المصائر. ومن بين تلك الطيور، يبرز الغُراب والهُدهد: أحدهما يُجسّد الندم، والآخر يُبشّر بالأمل.

الغراب كان أول شاهدٍ على أول جريمة في تاريخ البشرية. فعندما قتل قابيلُ أخاه هابيل، وقف الغراب معلّمًا للقاتل كيف يواري سوءة أخيه. ومنذ ذلك الحين، ارتبط في الذاكرة الجمعية بالمأساة، بالدم، بالندم الذي يأتي متأخرًا. صار نذيرًا بالشؤم، لا يُؤتى إلا بعد أن تقع الفاجعة.

أما الهدهد، فقد غاب عن مجلس سليمان، ثم عاد برسالة سلام. لم يحمل في منقاره حربًا، بل "نبأً يقينًا" من أرض بعيدة، من أرض سبأ، اليمن السعيدة التي أضحت بائسة. كانت رسالته دعوةً إلى التوحيد، إلى السلام، إلى التلاقي بالحكمة والموعظة الحسنة. فكان الهدهد رسولَ العقل، ومبشّرًا بالحلول، وسفيرًا للنوايا الطيبة.

اليوم، وبين الغراب والهدهد، يظهر في المشهد اليمني "وسيطٌ" غامض. لا نعرف له اسمًا، ولا نسمع له صوتًا، لكنه يطرق أبواب القرار ملوّحًا بالتهديد، لا بالسلام. يُقال إنه ينقل رسائل من أطرافٍ متعددة، ويؤدي دورًا "حميدًا"، لكن مضمون رسائله يكشف خلاف ذلك.

هل هو الوسيط الذي أبلغ فخامتكم أن مطار عدن سيُستهدف إن لم تُعَدّ طائرة ما إلى صنعاء؟

هل هو من ينقل تهديداتٍ باسم "التحذير"، لا بقصد الوساطة؟

هل هو الغراب الذي لا يظهر إلا ليقول إن الشر قادم، دون أن يمنعه؟

كل المؤشرات تدل على أن هذا الوسيط ليس سوى ناقل رسائل تهديد، أقرب إلى الغراب منه إلى الهدهد. يُخشى أن يكون عمانيًّا، بحكم امتلاكه خطوط تواصل مفتوحة مع جميع الأطراف، لكن حتى لو كان كذلك، فهل دوره فعلاً محايد؟ أم أصبح جزءًا من معادلة الترهيب؟

لقد صمت هذا الوسيط – أو صمتت رسائله – عن كل جرائم الحوثي: الانقلاب، القتل، تفجير المنازل، تلغيم البر والبحر، استهداف الحكومة، تعطيل تصدير النفط والغاز، ومحاولات تقويض الدولة. لكنه نطق فقط عندما تعلق الأمر بعودة طائرة!

أين هو هذا الوسيط من التهديد بضرب مطاراتنا؟ وأين كان حين مُنع تصدير نفطنا؟! وحين خضعت الشرعية لتلك التهديدات، فهل تقبل الشرعية، ويقبل التحالف – لا قدّر الله – أن يظل منفذ الوديعة هو الشريان الوحيد للحياة بعد هذا التهديد؟!

هل ننتظر أن يُقال لنا إن مواردنا غير النفطية مهددة أيضًا، وأن "الوسيط" جاء يُبلغنا بموعد الضربة القادمة؟

ما قيمة الوساطة إن كانت لا تحول دون الحرب، بل تؤجلها، أو تُلبسها ثوبًا قانونيًا بلسان دبلوماسي؟

ما حاجتنا إلى رسولٍ لا يحمل سوى الوعيد، ويذكّرنا دومًا بالهزيمة؟

ألسنا أحوج إلى هدهدٍ يعرف اليمن، ويجيد قراءة تعقيداتها، ويبني الجسور بدل أن يرسم الخنادق؟

إن الهدهد، كما جاء في القرآن الكريم، قال: "أحطتُ بما لم تُحط به، وجئتك من سبإٍ بنبإٍ يقين". لم يلوّح بالحرب، بل دعا إلى الحل، وعبّد طريق الوحدة دون قطرة دم.

أما الغراب، فقد جاء بعد القتل، ليعلّم كيف يُدفن الجسد، لا كيف تُنقذ الأرواح.

فما بين هدير الغراب وهديل الهدهد، تقف النفس اليمنية متأملة:

هل نكون صدىً للخراب، نستجيب للتهديد كما فعلنا مرارًا؟

أم نكون صوتًا للحكمة، نُبادر، ونرفض الخضوع لمنطق القهر؟

إننا بحاجةٍ إلى إرادة تفرض "الهدهد"، لا تنتظر "الغراب". بحاجة إلى قرارٍ يعيد تصدير النفط بالقوة، لا بالرجاء. بحاجة إلى معادلة جديدة تكسر حلقة اللاسلم واللاحرب.

ليتنا نملك شجاعة البدء، لا ننتظر موعد الدفن.

ليتنا نفرض نحن صوت السلام، قبل أن تُفرض علينا شروط الندم.

لا نثقل عليكم... وعيدكم سعيد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي