تعيش الشرعية اليمنية لحظة حرجة من التغييب الإقليمي والدولي، في ظل تحركات سياسية كبرى يتم خلالها تجاهلها لصالح انفتاح متزايد على الحوثيين. يعكس هذا المسار خطر إقصاء ممنهج قد يعيد رسم المشهد اليمني دون تمثيل شرعي، مما يهدد بتقويض أسس السلام والاستقرار. ومع إشارات أمريكية وخليجية متباينة، تبرز ضرورة أن تتحرك الشرعية بسرعة، ميدانيًا وسياسيًا، لإعادة فرض حضورها. الانتظار لم يعد خيارًا، فالتأخر يمنح الخصم الضوء، ويُدخل الشرعية في نفق مظلم. إن المجتمع الدولي مدعو لاحترام الشرعية كركيزة لأي تسوية دائمة وشاملة في اليمن.
مؤشرات التغييب:
شهدت العاصمة السعودية الرياض مؤخرًا لقاءات رفيعة جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلى جانب قمم إقليمية بمشاركة غير مباشرة من تركيا. غير أن اللافت كان غياب الرئيس اليمني الدكتور رشاد العليمي عن هذه اللقاءات، رغم وجوده في الرياض، في حين حضر الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي استُدعي على عجل، وهو ما أثار تساؤلات مشروعة حول هذا التجاهل غير المبرر، إذ كان من الضروري الاستماع إلى رأي السلطة الشرعية بشأن التدخل الأمريكي الذي أضر بالشعب اليمني، بينما أفاد الحوثيين إلى حد كبير.
والأخطر من ذلك أن اتفاقًا جرى بين واشنطن والحوثيين بشأن وقف إطلاق النار، يقضي بعدم استهداف أي من الطرفين للآخر، في اعتراف ضمني بسلطة الحوثي على البحر الأحمر، وفي انتهاك صارخ للسيادة، ومن دون تقديم أي اعتذار رسمي للشرعية عن التدخل السابق قبل التوصل إلى هذا الاتفاق مع الحوثيين. فالشرعية هي صاحبة المركز القانوني. وقد تم هذا الاتفاق مع الحوثيين دون علم الحكومة الشرعية أو التحالف العربي، وهو ما يثير الشكوك حول نوايا أمريكا الخفية لإعادة رسم المشهد اليمني بمعزل عن السلطة الشرعية.
هل نحن أمام إقصاء ممنهج؟
والأسوأ من ذلك أن الولايات المتحدة صنّفت الحوثيين جماعة إرهابية، لكنها في الوقت ذاته فتحت قنوات تواصل معهم، بل وتوصّلت معهم إلى اتفاق.
بل إن الرئيس ترامب وصفهم بـ"الشجعان"، وقال إنهم "ملتزمون" و"باحثون عن السلام"، رغم جرائمهم المستمرة ضد المدنيين اليمنيين، ورغم استمرار تصنيفهم كإرهابيين.
هذا المسار يثير قلقًا مشروعًا، ليس فقط بشأن مدى التزام واشنطن بمبادئها المعلنة وقرارات مجلس الأمن، بل أيضًا بشأن مستقبل التسوية في اليمن.
إنها المفارقة التي تستعصي على الفهم، حين يُفاتح الحوثي ويُرحب بالاتفاق معه كـ"حمامة سلام"، فيما يُغيب صاحب الحق الأصيل!
في المقابل، لم يلتقِ الرئيس ترامب، الزائر للمنطقة، بقيادة الشرعية ولو في لقاء بروتوكولي، بينما تم استدعاء "الشرع" من سوريا، في مشهد قد يوحي بأن الشرعية اليمنية لم تعد ضمن أولويات اللاعبين الدوليين.
إن استبعاد الشرعية عن لقاءات بهذا الحجم، في حين يُستقبل "الشرع" — الذي كان على قوائم الإرهاب الأمريكية — ويجلس إلى جوار الرئيس ترامب، كأنما تذوب ذاكرة السياسة في كأس المصالح!
ذاك مؤشر خطير، وقد يشي بإمكانية تكرار السيناريو ذاته مع الحوثيين. فالاتفاق الذي تم بين الأمريكيين والحوثيين في سلطنة عمان يؤكد وجود اختلال في المعايير السياسية والأخلاقية، ويكشف تراجعًا في الالتزامات الدولية الداعمة للشرعية في اليمن. يستوجب رفع الصوت وكشف المستور، والتحذير من عواقبه.
الفرصة المتاحة أمام الشرعية:
إن ما نبه إليه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لأمير دولة الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، بعد إنهائه كلمته في القمة الخليجية-الأمريكية، حيث تبنّى توصيف سلطنة عمان للحوثيين بأنهم 'سلطة معنية' باليمن، فبادر ولي العهد بالتنبيه والتوضيح درءًا لأي التباس لدى السامعين، فتدارك الشيخ مشعل الموقف مجددًا وصحح العبارة الملتبسة، مؤكدًا أن المقصود هو أنهم 'سلطة غير شرعية'، يُعدّ ذلك فرصة ذهبية للشرعية لإعادة تموضعها سياسيًا، وصياغة خطاب قوي يستند إلى توصيفات واضحة، مستفيدة من هذا الموقف المستجد لقائد في التحالف العربي، والذي تسعى سلطنة عمان إلى تشويهه.
وفي ضوء اللغط الذي أحدثته سلطنة عُمان، يجب على الشرعية الآن، وبأقصى سرعة، أن تتحرك ميدانيًا وسياسيًا، وتوظف اللحظة الراهنة لكشف ما يجري خلف الكواليس من تفاهمات قد تقوّض شرعيتها وتنسف مستقبل البلاد الآمن.
والتحالف العربي بحاجة إلى تماسك أكبر، خاصة في ظل التباينات التي تظهر بين بعض الدول الخليجية. وهذا يتطلب تحركًا سياسيًا ذكيًا من الشرعية لتثبيت حضورها الإقليمي والدولي.
إن انتظار الضوء الأخضر قد يمنح الضوء للخصم، ويغرق الشرعية في ظلام التهميش. فالتحرك العسكري والسياسي هو ما يستدعي الدعم، لا العكس.
المطلوب: تصويب البوصلة
القضية ليست تغييب أشخاص كما يتشفى البعض أو يتوهم آخرون، بل تغييب قضية وطنية تمثلها شرعية معترف بها دوليًا. وعلى المجتمع الدولي، والأمم المتحدة خصوصًا، أن يعيد تصويب البوصلة السياسية نحو احترام الشرعية اليمنية ومكانتها ودورها ومركزها القانونيين، وفقًا للمرجعيات والقرارات الدولية ذات الصلة.
كما أن على الشريكتين الخليجيتين، السعودية والإمارات، إثبات دعمهما للشرعية من خلال خطوات عملية تضمن لها مركزها القانوني الكامل، سواء في إنهاء الانقلاب، أو إنعاش الاقتصاد والعملة المحلية، وصرف رواتب الموظفين، أو في أي مبادرة مستقبلية كخارطة الطريق أو غيرها.
ثم... ماذا بعد؟
إن تغييب الشرعية ليس فقط عن لقاءات الرياض، وإنما عن تجاوزها في العدوان على الأعيان والبنى التحتية اليمنية، والاتفاق مع خصومها الإرهابيين، والضغط عليها لتمرير مبادرات تضر بمركزها وبالشعب اليمني، كل ذلك لا يجب أن يمر دون مراجعة جادة.
عليها الآن أن تتوجه للرأي العام المحلي والدولي بخطاب صريح، يكشف خلفيات التجاهل، ويوضح التداعيات الخطيرة لتجاوزها.
ينبغي على الشرعية أن تعود إلى الميدان، وأن تستعيد زمام المبادرة عسكريًا، وسياسيًا، وإعلاميًا، لتثبت أنها الطرف الذي لا يمكن تجاوزه في جميع الأحوال.
ورغم التجاهل، أبدت قيادة الشرعية — ممثلة برئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي — موقفًا متزنًا، إذ عبّر في قمة بغداد عن تقديره للزيارة الأمريكية ونتائجها، معتبرًا أنها تدعم القضايا العربية...
هذا الموقف يُظهر التزامًا بالانفتاح، ويعكس وعيًا بأهمية الحضور السياسي الإيجابي، حتى في أصعب الظروف.
ختامًا...
إن مصير اليمن لا يجب أن يُرسم في غياب ممثليه الشرعيين. فقرار الحسم بيد الشرعية، وقرار التسوية كذلك. وأي تجاوز أو تهميش لا يستند إلى الشرعية سيبقى هشًّا، ومُعرّضًا للانفجار عند أول اختبار.
وعلى المجتمع الدولي أن يدرك أن شرعية الدولة اليمنية ليست خيارًا يمكن تجاوزه، بل هي الأساس لأي حل سياسي حقيقي ينهي الانقلاب، ويحقق سلامًا مستدامًا.
-->