في لحظة فارقة من تاريخ اليمن، ذرف محمد سالم باسندوة دموعًا صادقة حذّرت من الانهيار، لكن لم يُصغِ إليه أحد. واليوم، وبعد أن سالت الدماء، أدرك اليمنيون أن بكاءه لم يكن ضعفًا، بل بصيرة.
مشهد نادر ودموع صادقة
ظهر رئيس الوزراء الأسبق لحكومة الوفاق الوطني، الأستاذ محمد سالم باسندوة، بعد تعيينه في نوفمبر 2011، مراتٍ عديدة في مشهدٍ نادر، وهو يذرف الدموع بحرقة أمام عدسات الكاميرا، مخاطبًا شعبه بصدقٍ نابعٍ من قلبٍ مثقلٍ بالهمّ الوطني.
لم تكن دموعه انفعالًا عابرًا، بل كانت شهادةً حيّةً على ما رآه قادمًا من انهيارٍ ودمارٍ وتشظٍّ.
آنذاك... سخرية وعدم إدراك
للأسف، لم تجد تلك الدموع آذانًا صاغية، بل كانت محل سخرية وتساؤلات:
"لماذا يبكي؟ أليس هو في موقع القرار؟ ما الذي يخفيه؟"
لم يدرك كثيرون حينها أن تلك الدموع كانت استباقًا للكارثة، وتحذيرًا مبكرًا من رجل خبير في دهاليز السياسة، استشرف حجم الخطر القادم.
اليوم فقط... فهم اليمنيون بكاء البصيرة
بعد ما حلّ باليمن من تمزق وضياع، وهيمنة الميليشيات، وتدخلات الخارج، وقتل، وانهيار الاقتصاد، وتدهور حياة المواطن، وانتشار المجاعة، أدرك اليمنيون أن دموع باسندوة لم تكن ضعفًا، بل كانت بصيرة نافذة.
لقد كانت توقعاته سابقة لعصره، وفهمه للمشهد أعمق من أن يُستوعب في لحظته.
لم يكن من المصفقين للخراب
باسندوة، المناضل الشريف، لم يكن من المصفقين للخراب، بل اختار أن يبكي الوطن أمام الجميع، ليسجّل للتاريخ أنه حاول، ونبّه، وسعى لإيقاظ الضمير الوطني.
لكن لم يكن هناك من يصحو من سباته، أو يسمع الحقيقة وسط ضجيج الشعارات والمماحكات.
حين تتحول الدموع إلى دروس
اليوم، وبينما يطوّق الخراب المدن، وتعصف الأزمات بالشعب، يصبح من الضروري أن نستذكر دموع باسندوة، لا لجلد الذات، بل لاستلهام العبرة:
أن الصوت الصادق كثيرًا ما يُهمَل حين تتغلب المصالح، أو حين نخدع ببريق الكلام ومبادرات تزيد الواقع تعقيدًا بدلًا من أن تحله.
إنجازات لا تُنسى لرجل وطني
لقد آن الأوان لتوثيق بعض إنجازات ذلك الرجل النزيه وهو لا يزال حيًا، ومنها:
استقرار سعر صرف الدولار في عهده عند 226 ريالًا.
توظيف أكثر من 60 ألف موظف ممن كانوا في قائمة الانتظار في الخدمة المدنية، و200 ألف في السلك العسكري.
تعديل سعر بيع الغاز مع الشركة الكورية من 3 إلى 12 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية.
إلغاء اتفاقية مجحفة بشأن ميناء عدن.
رفع الأجور والمرتبات في مختلف القطاعات.
لقد كان وطنيًا متجردًا، لم يسافر يومًا على نفقة الدولة لزيارة أسرته.
ونحن أعضاء هيئة التدريس في الجامعات اليمنية مدينون له، ونشكره لوقوفه إلى جانبنا ودعمه لنا في نيل بعض حقوقنا، من تحسين هيكل الأجور، والتقاعد، والعلاوات، بعد تلاعب كبير سبق عهده...
وإن كان يُحسب عليه وعلى حكومته "الجرعة" التي كانت سببًا لانقضاض الحوثي على السلطة، ومنح الحصانة أيضًا، إذ إنها لم تنقذ الوطن.
دمعات... وتاريخ من الألم
أجهش باسندوة بالبكاء عدة مرات،
وسأكتفي بالإشارة إلى دمعتين بارزتين:
إحداهما كانت بعد عودته من الدوحة، حيث اختنق صوته بمجرد ذكرها، حين تذكّر وقارن بين ما شاهده هناك من تطورٍ ونهضة، وما هو حاصلٌ عندنا من حروبٍ، ودماءٍ، وفوضى، وتخلّفٍ، وظلام.
أما الثانية، فكانت أمام مجلس النواب، وهو يتلو نص قانون الحصانة للرئيس السابق علي عبدالله صالح، قائلًا:
"أعرف أن هذا القانون سيعرضني للشتم، لكني مستعد حتى أن أُقتل من أجل هذا الوطن!"
لا حصانة لوطن... ولا لطفولة!
اليوم، لا نجد حصانة لوطن، ولا لمؤسسة، ولا لمجلس نواب، ولا حتى لطفولة تُغتال بالتلقين، وتُدفع إلى الجبهات للموت بدل الذهاب إلى المدارس للتعليم.
غدت البلاد ساحة مفتوحة للخراب، بلا دستور، ولا قانون، ولا صوت. ولذا ننادي بأفق قريب للخلاص الوطني.
من نبوءة إلى واقع
كان باسندوة يُنبه مبكرًا من الفتن، والتدخلات، والمشاريع الانقلابية، ويقرأ المستقبل بوضوح، محذرًا من تمزيق الدولة وزرع الألغام في طريق وحدتها.
لكن لم يُصغَ له، واليوم نعيش تفاصيل ما كان يخشاه، وكأننا نقرأ من دفتر نبوءاته المؤلمة.
واقعنا اليوم... دماء بدل الدموع
يا دولة الرئيس، لقد سالت دموعك يومًا على اليمن... أما اليوم، فدموعنا تحوّلت إلى دماء، وآلامنا إلى جراح مفتوحة.
وها نحن نعيش ما هو أفظع من الصومال:
قتل، وتهجير، وتشريد لأكثر من نصف مليون إنسان.
نذرف دمًا بدل الدموع، ونعيش شتاتًا في القرار، وتفرّقًا في الكلمة والموقف.
دموعنا اليوم... ليست كالبارحة
لقد استذكر اليمنيون دموعك اليوم، لأن دموعهم أصبحت:
دمًا على فراق أبنائهم.
عطشًا حيث لا ماء.
دموعًا مالحة وهم يرون بحارهم تُستباح.
دموعًا جافة من جفاء "الشرعية".
دموع يأس، ومعظمهم يعيش مجاعة لا أفق لتخفيف حدتها.
دعاء وأمل
نسأل الله أن يُخرج اليمن من النفق المظلم الذي أدخله الحوثي ومن سانده،
وأن تعود لليمن عافيته، ووحدته، ومكانته التي تليق به.
الخاتمة: دموع أصدق من ألف خطاب
في الختام، دموعك يا باسندوة كانت أصدق من ألف خطاب، وأنقى من الشعارات المضللة.
لقد بكيت الوطن بصدق، بينما يحاول آخرون اليوم بيعه بثمن بخس!
... فهل يبكي الوطن عليك يا باسندوة؟
-->