يروي الأستاذ محسن العيني نقلاً عن الأستاذ محمد الحمدي، شقيق الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، أن الأخير كان يردد في أيامه الأخيرة: "يا ليتني استمعت لنصيحة محسن العيني". نصحه العيني بعدم تعيين اللواء أحمد الغشمي كرئيس للأركان ونائبًا له، محذراً من خطورته وعدم كفاءته لتولي تلك المناصب. غير أن الحمدي تجاهل التحذير، وكانت النتيجة اغتياله في حادثة مأساوية تركت أثرها في وجدان اليمن واليمنيين.
كانت البطانة السياسية منذ القدم عاملاً حاسماً في تشكيل مسار الدول، سواءً كانت نهوضًا أم تداعيات حتى السقوط، وإذا كان حسن اختيار المستشارين الصادقين والمخلصين يساهم جديًا في بناء حضارات واستقرار الدول، قد يؤدي سوء اختيارهم إلى كوارث سياسية تقلب موازين التاريخ رأسًا على عقب.
للبطانة والرفقة الطيبة، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، عظيم الأثر في نشوء الدول وصمودها أمام التحديات. أكدت السنة النبوية ذلك المبدأ في سياق حديث ﷺ عن "الجليس الصالح وجليس السوء، نهوض المجتمعات واستقامتها يرتكز على أخلاق البطانات وقيمهم الوطنية الراسخة. وقد حرص صناع الحضارات عند البناء ومواجهة المخاطر على انتقاء خاصتهم من المخلصين، وإن أوجع صادق نصحهم أو لم تعجب نزعة السلطان، فإن قيمتها تظل محوراً جوهرياً لاستقرار الدول.
ولم يكن اعتيال الشهيد الحمدي مثالاً وحيدًا على فداحة سوء البطانة. فقد تكررت المآسي السياسية في تاريخنا المعاصر نتيجة تجاهل النصائح وسوء البطانة. في العراق وبعد ثلاث سنوات من اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، ذكرت بعض المصادر أن الرئيس صدام حسين كان يردد: "يا ليتني استمعت لنصيحة الملك فهد بن عبد العزيز". فقد نصحه الملك بعدم خوض الحرب مع إيران، مؤكداً أنها ستوحد الشعب الإيراني المنقسم بعد الثورة، وستكون عواقبها وخيمة على العراق. أثبتت الأحداث صحة ما قاله الملك، حيث غرقت البلاد في حرب استنزافية خلفت خسائر بشرية واقتصادية ضخمة بسبب البطانة.
شهدت اليمن تداعيات مأساوية نتيجة سوء التقدير السياسي. بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، كانت الدبلوماسية اليمنية قد حققت تقدماً كبيراً في إقناع الولايات المتحدة والسعودية بحيادية الثورة تجاه الصراعات الدولية. وقد أبدت الدولتان استعدادهما للاعتراف بالجمهورية العربية اليمنية شريطة انسحاب الجيش المصري من اليمن. بدأ الانسحاب بالفعل عام 1963، واحتفلت القاهرة بعودة جنودها. غير أن مشورة السوفييتي عبر المشير عبد الحكيم عامر قلب المعادلة تماماً، أشاروا بعودة الجيش المصري إلى اليمن بناءً على وعود بدعم مادي وعسكري من الروس. كانت النتيجة مأساوية، حيث أحجمت الولايات المتحدة عن الاعتراف بالجمهورية، واستمرت السعودية في دعم الملكيين لخمس سنوات إضافية، مما أضعف اليمن واستنزفها أرضًا وإنسان.
كان لبطانة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر كبير الأثر وكانت أحد أسباب النكسة التي تعرضت لها مصر عام 1967. فقد حذر الفريق حسين الشافعي، أحد نواب الرئيس جمال ، من سلوك عبد الحكيم عامر قائد الجيش، الذي اتسم بسوء التخطيط والإدارة منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن تجاهل التحذيرات التي أدت إلى الهزيمة أمام إسرائيل في حرب يونيو 1967، وما تبعها من انهيار سياسي وعسكري كبير.
كانت تجربة الرئيس علي عبد الله صالح مثالاً آخر على أثر البطانة في مسار القيادة. التف حوله في بداية حكمه مستشارون مخلصون قدموا له النصح والإرشاد، الأمر الذي ساعده على تثبيت أركان حكمه وتمكن إلى حدٍ بعيد. لكن مع مرور الوقت، وظهور طبقة جديدة من المستشارين الشباب وأصحاب الهوى والمصالح، بدأ يُعرض ويتجاهل النصائح الصادقة غلبتها المجاملات والانتهازية. أدت هذه الديناميكية إلى اتخاذ قرارات كارثية، أبرزها التحالف مع بقايا الإمامة، الذي أتاح المجال لتغلغل النفوذ الإيراني في اليمن.
ومع ذلك، لم يكن جميع من أحاطوا بصالح من الانتهازيين. فهناك أسماء مشهودٌ لها بالوطنية والإخلاص مثل الدكتور عبد الكريم الإرياني، وعبد العزيز عبد الغني، والدكتور رشاد العليمي، وبا سندوة، وعبدالعزيز جباري الذين حاولوا تقديم نصائح مخلصة، لكنها قوبلت بالتجاهل والإهمال وقد أُجبر بعضهم على التواري والابتعاد عن المشهد السياسي عندما أدركوا أن الأمور تتجه نحو مسارات خاطئة وخطيرة.
كانت هناك إشارات على أن صالح في أواخر أيام حكمه استمر في تجاهل النصائح المتعلقة بخطورة المشروع الإمامي المتغلغل في مفاصل الدولة. يذكر الصحفي فهد الشرفي أنه، كأحد ممثلي مجتمع صعدة، حاول مع مجموعة من زملائه الضغط على صالح لعدم التفاوض مع الحوثيين بعيداً عن الصعداويين أنفسهم. لكن مستشاره أحمد الكحلاني كان دائماً يجلس بجواره ويؤكد على عدم إمكانية عودة الدولة إلى صعدة، وصالح يستمع لافتئات الرجل دون اكتراث.
ختامًا لم يكن المستشارون مجرد موظفين أو شركاء في صناعة القرار، بل هم مفاتيح نجاح أو فشل أي نظام، قد تكون النصيحة المخلصة قاسية أحياناً، لكنها الضامن الوحيد للحفاظ على المصالح الوطنية. وفي المقابل، وعند غياب النقد البنّاء، وسيطرة المجاملات والانتهازية على البطانة، تُفتح أبواب الإنهيار على مصراعي.
وسنجد أن الفشل السياسي كثيراً ما ارتبط بسوء البطانة، وسنجد أن النجاح كان على الدوام حليفاً لأولئك الذين أحاطوا أنفسهم بمستشارين أكفاء وصادقين. ويبقى السؤال مفتوحاً هل تعلّمنا من أخطاء الماضي أم أن التاريخ سيستمر في تكرار نفسه وستبقى النكبات لنا حليفة؟
-->