في كل تاريخ الأمم والرسالات، لم يسجل قيام ووجود حضارة وبناء دولة، قامت على منهج الكلمة، فكل الرسل الذين حملوا الرسالات السابقة للرسالة الخاتم، لم يبنوا دولة، فموسى عليه الصلاة والتسليم أسقط دولة الفرعون ولم يبني دولة الرسالة، وعيسى عليه الصلاة والتسليم عاش في كنف الدولة الوثنية البيزنطية، ولم يبني دولة الرسالة.
لكن التاريخ سجل لنا أن منهج الكلمة القرآنية، عمل على صياغة وبناء وتأسيس دولة وحضارة، وقبلها صاغ وبنى وأسس الإنسان القرآني المؤمن.
ففي خلال ٢٣ عاماً استطاع رُعاة إبل في قلب صحراء قاحلة، لا تمتلك أي مقومات مادية، ولا دولة، ولا حتى أسس لدولة، أن يؤسسوا لبناء دولة وحضارة وريادة، أسقطت إمبراطوريتين تقاسمتا العالم لقرون، هما فارس والروم.
٢٣ عاماً هي عمر دعوة الرسول محمد عليه الصلاة والتسليم، هو رقم معجز في تاريخ الحضارة، دعوة انقسمت لمرحلتين، الأولى ١٣ عام تمت فيها الدعوة بمكة، والثانية ١٠ أعوام تمت فيها بناء دولة المدينة.
في خلال ١٠ أعوام، بنى النبي محمد دولة المدينة، فأي إعجاز وتفرد هذا الذي تم، به تم تأسيس دولة، لأمة لم تعرف الدولة، وأي دولة هذه التي أسست انطلاقتها لحضارة المعرفة، التي بدأت في استعمار الأرض، ووصلت بها اليوم للتحكم في الفضاء.
ادرسوا تاريخ الأمم والشعوب وما يمتلكونه من مقومات مادية مختلفة، ووجود لدولة متجذرة، هل تجدون أمة نهضت، وقادت حضارة رائدة، وهزمت امبراطوريتين، خلال ١٠ سنوات، وهي لا تمتلك شيئاً من المقومات المادية، ولا حتى مفهوم الدولة، هو أمر جلل ورقم معجز لم يحضى بالدراسة والإنصاف حتى اليوم.
كل الحضارات تقوم بتوفر مقوماتها إما زراعية أو تعدينية، لكننا نجد هنا حضارة مختلفة تماماً، فلا وجود لهذه المقومات، وحدها الرسالة الخاتم، وكتابها القرآن، مفتاحها، وسرها، وبدايتها ومنتهاها، قدمت لنا حضارة الكلمة "إقرأ" هي المفتاح السحري للمعرفة، والتي بها بدأ الله إكمال دينه وإتمامه.
بكتاب الوحي القرآن، ومنهج "إقرأ" تم إعلان بداية حاكمية الإنسان، واستخلافه واستعماره للأرض، من خلال هذا المنهج القرآني، الذي بدأت به الرسالة الخاتم معلنة التحول الهائل من كلمة "اعبدوا الله" في الرسالات السابقة، لكلمة "إقرأ" في الرسالة الخاتم، والتي بها وفهمها بدأ الرسول والنبي محمد قراءة القرآن، وقراءة واقعه، وفق منهج القرآن، وبهذا المنهج القرآني، والقرائي، والاستقرائي، للقرآن والواقع، كانت قراءة الرسول الأولى للقرآن، وكان لنا عليه الصلاة والتسليم هو الأسوة الحسنة كما ذكر الله، وهنا تكمن حقيقة ودلالة الأسوة الحسنة، التي أرادها وليست التي أرادها الفقهاء.
فبهذا المنهج، وقراءته، وقراءة واقعه، بدأ الرسول صياغة أسس دولة المدينة، ومجتمعها، بطريقة فريدة بلورتها حضارة الكلمة القرآنية، التي بنت دولة قامت على المدنية، وإنسانية الإنسان، ولم تقم على الدين والمعتقد، والعصبية العنصرية، أو القبلية، دولة لمجتمع تساوى فيها بني آدم بمختلف مللهم، وأعراقهم، فكانت بحق دولة الإنسان، بها تساوى بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وعلي بن أبي طالب، الهاشمي القرشي، رضوان الله عليهم في مجتمع القرآن.
بقراءته عليه الصلاة والتسليم، لمنهج دين الإسلام الخاتم، وكتابه القرآن، وحضارة الكلمة التي حملها، وقرائته لواقعه، صاغ من خلال ربط الواقع بالمنهج القرآني، مفردات دولة مدنية الإنسان، فتحولت "يثرب" القرية بأحاديتيها وعصبياتها المختلفة والمتناحرة، لمسمى جديد هو "المدينة" التي تعني التعدد والتنوع والإخاء والتعارف الإنساني بتعدد الأعراق والملل، وبهذه التسمية تم إعلان دولة المدينة والمدنية، القائمة على التعدد والتعايش والتعارف، واختفاء دولة القرية القائمة على التفرد والأحادية والعصبية والهيمنة والكراهية.
وكما صاغ المنهج القرآني أسس دولة المدينة، صاغ مجتمع المدينة وفق مصطلحات قرآنية جديدة، جمعت الناس تحت عنوانين مختلفة أهمها:
الأول: الأخوة الإيمانية.
تناسقا وتطبيقا لقوله سبحانه ( إنما المؤمنون أخوة).
الثاني: الأخوة الإنسانية.
تناسقا وتطبيقاً لقوله سبحانه ( خلقكم من نفس واحدة).
الثالث: تفاضل التقوى.
منهج القرآن جعل معيار التفضيل والتفاضل بين الناس، مختلفاً تمامًا عن المعيار البشري، محدداً "التقوى" بأنها المعيار التفضيلي عن. الله بين الناس، وهو معيار لا علاقة له بمعيار العنصرية، بكل مسمياتها، وهو معيار متناسق ومطابق ومطبق لقوله تعالى( إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
الرابع: المهاجرون.
أذاب المنهج القرآني كل بطون وقبايل قريش، وسكان مكة، في مصطلحه الجديد المطابق لبناء مجتمع المدينة هو "المهاجرون" به ذابت العنصرية لكل قبائل وسكان مكة.
الخامس: الأنصار.
أذاب المنهج القرآني كل بطون وقبايل المدينة والأوس والخزرج، وسكان المدينة، في مصطلحه الجديد المطابق لبناء مجتمع المدينة هو "الأنصار" به ذابت العنصرية لكل قبائل وسكان مكة.
السادس: أمير المؤمنين وبيت مال المسلمين.
صاغ المنهج القرآني مؤسسات دولة المدينة ومجتمعها، بميثاق المدينة، الذي يعتبر أول دستور، يقوم على مبدأ إنسانية الإنسان، وأخوته الإيمانية والإنسانية، وتسمى رأس الدولة "أمير المؤمنين" أي غالبية السكان، وبيت المال سميت "بيت مال المسلمين" فهي حق لكل الناس، من سكان المدينة، مؤمنين وغيرهم من الملل، اليهودية، والنصرانية، والصابئة، والمشركين، والكافرين.
وبهذا قام المجتمع المسلم للمدينة على منهج قرآني مختلف عن كل المجتمعات السابقة واللاحقة، هذا المنهج القرآني الذي قدمه الرسول أسوة حسنة، صنع دولة وحضارة الكلمة القرآنية في زمن قياسي مدته عشر سنوات.
جمعتكم وعي بمنهج القرآن وحضارة الكلمة القرآنية.
وللحديث بقية عن غياب منهج الرحمن، وهيمنة منهج الشيطان، والذي بهما هجرت الأمة منهج القرآن فانتهت بحضارتها ودولتها.
-->