في وجه الاتهامات التي تتردد هنا وهناك بأن حماس والمقاومة الفلسطينية تخوض معركة غير متكافئة ضد احتلال صهيوني لا يعرف الرحمة ولا التوازن، يتوجب علينا أن نلقي نظرة على التاريخ، حيث يقف شامخًا بشهدائه وأبطاله الذين خاضوا أشرس المعارك ضد أقوى الإمبراطوريات. من الجزائر إلى ليبيا، ومن الهند إلى فيتنام، ثورات الشعوب المستعمَرة لم تكن يومًا ثورات متكافئة في القوة أو السلاح، لكنها كانت ثورات محكومة بالإرادة والعزيمة، ثورات تسعى للتحرر من القيد والذل.
في الجزائر، أكثر من مليون ونصف المليون شهيد ارتوت الأرض بدمائهم على مدى سنوات طويلة من الكفاح. لم يكن للجزائريين في مواجهة جيش فرنسا المدجج إلا شجاعة المؤمنين بحريتهم، فانتصروا. وكما خلد التاريخ أسماء شهداء الجزائر، من الذين واجهوا الرصاص والمشانق بعزم لا ينكسر، سيأتي يوم يُخلد فيه أسماء الشهداء الفلسطينيين الذين يسيرون على نفس الطريق، حاملين أرواحهم على أكفهم دفاعًا عن حقهم المغتصب.
وكيف لنا أن ننسى عمر المختار، شيخ المجاهدين الليبيين، الرجل الذي قاوم جبروت المدرعات والطائرات الإيطالية ببندقية شخصية، مسنودًا بإيمانه بوطنه وحقه؟ رجل بلغ من العمر عتيًا، لكنه وقف شامخًا في وجه الإمبراطورية الإيطالية، يقود ثورته بروح لا تعرف الخنوع، حتى آخر رمق في حياته. عمر المختار قُدم إلى المشنقة، لكنه لم يَنهزم؛ بل أسس أسطورة خالدة عن الثورة والإباء، وأصبح رمزًا للمقاومة ضد الاحتلال مهما بلغت قوة العدو.
إذا كان التاريخ مليئًا بقصص المقاومين الأبطال الذين انتصروا رغم عدم التكافؤ في القوى، فلماذا نستكثر على فلسطين حقها في المقاومة؟ لماذا نعتبر أن الفلسطينيين يخوضون “مغامرة”؟ الواقع يقول إن الاحتلال الصهيوني لا يحتاج إلى ذريعة لقتل الأبرياء أو تدمير البيوت. الضفة الغربية التي لم ترفع السلاح تُنتهك يوميًا، والمسجد الأقصى يُدنس تحت أعين العالم الصامت. الاحتلال يهدم البيوت، ويطرد الناس من أرضهم لا لشيء إلا لأنه يريد التوسع والاستيلاء على المزيد.
أسألكم، وأتمنى أن تجيبوا أنفسكم بكل صدق: ألم تكونوا سعداء في 7 أكتوبر 2023، عندما اقتحمت المقاومة الفلسطينية المستوطنات ومعسكرات الاحتلال الصهيوني؟ لا تجيبوني أنا، بل أجيبوا على أنفسكم بصراحة. في ذلك اليوم، كان للكرامة صوت، وكان للحق سيف يُشهر في وجه الاحتلال. تلك اللحظات التي رأى فيها العالم أن المقاومة الفلسطينية قادرة على ضرب الاحتلال في عقر داره، كانت لحظات اعتزاز لكل من يؤمن بحق الشعوب في مقاومة الطغيان.
نعم، أختلف مع حماس في بعض توجهاتها السياسية، خاصة فيما تقدمه من دعاية لصالح المحور الإيراني المعادي لبلدي. ولكن، هذه هي السياسة، وهذه هي الضرورات التي تفرضها الحاجة. حماس وجدت في إيران من يمد لها يد العون، ليس حبًا في المقاومة الفلسطينية، بل رغبة من إيران في الترويج لنفسها كمحور مقاوم للاحتلال، في إطار دعايتها لفكرة “ولاية الفقيه” وتقديم نفسها كمدافع عن فلسطين. إنها دعاية، ونحن نعلم ذلك جميعًا. لكن حماس، وهي تدرك هذه الحسابات، استفادت من الدعم الإيراني لتطوير قدراتها في مقاومة الاحتلال الصهيوني. السياسة لا تعرف المثالية، إنها لعبة مصالح، وحماس اختارت أن تستفيد من تلك المصالح لصالح قضيتها العادلة.
المقاومة ليست مغامرة، إنها حق. حق كل شعب احتلت أرضه، هُجر من منازله، وسُلبت كرامته. حق تفرضه العدالة الإنسانية، ويفرضه التاريخ الذي كُتب بدماء المقاومين. في عالم لا يعرف إلا لغة القوة، لا يوجد خيار للفلسطينيين سوى المقاومة. لم تكن الجزائر لتتحرر لولا تضحيات الشهداء، ولم يكن عمر المختار ليصبح أسطورة لولا بندقيته التي قاومت الدبابات.
نحن نعلم أن المنتصر هو من يكتب التاريخ. فاليوم قد يرى البعض أن المقاومة مغامرة، لكن غدًا، عندما يتحقق النصر، ستُكتب أسماء شهداء فلسطين بماء الذهب، تمامًا كما كتبت أسماء مليون ونصف مليون جزائري شهيد، وكما خُلد اسم عمر المختار في سماء الأبطال.
فلسطين ستنتصر، هذا قدر الأرض وأصحابها. قدر الشعوب المحتلة أن تنتفض، أن تقاوم، أن تقدم الشهداء، لكنها في النهاية تنتصر.
-->