مدخل
الخيانة جُرم تهتزّ له الفِطر السليمة، وترتجف منه القلوب الطاهرة؛ لأنها تنقض الميثاق، وتدوس على الأمانة، وتُفكّك المجتمع.
فهي خيانة في العقود والمواثيق، وهي صفة مذمومة عند الله.
الخيانة لله والرسول وللأنفس مدانة وغير مقبولة على الإطلاق، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} (الأنفال: 27)
فالخيانة محرّمة في كل الأحوال، ولا تُبرَّر بالخوف أو الحاجة أو الظروف السياسية.
وحتى في الحرب، يُمنع الغدر؛ فالإسلام يُعلي من قيمة الوفاء بالعهد، حتى مع الخصوم.
الخيانة تهدم الثقة، وتقوّض المجتمعات؛ فهي تُفقد الاستقرار، وتُولّد الفتن والاقتتال، وتُعيق البناء والتنمية.
وخلاصة القول: إن الخيانة في القرآن ليست مجرد مخالفة أخلاقية، بل جريمة روحية واجتماعية تعرّض صاحبها لسخط الله، وتقوّض أسس العدل والسلام.
ومن أعظم ما يُهذّب النفس ويزكّي الضمير: التأمل في ما ورد في القرآن الكريم عن الخيانة، ومنها قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (الأنفال: 58)
السياق القرآني
جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن المعاهدات والمواثيق، حيث يقول تعالى:
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (الأنفال: 58)
وفيها توجيهٌ رباني بعدم مقابلة الخيانة بمثلها، بل بإنهاء العهد بطريقة عادلة وعلنية.
فالله لا يحب الخيانة، ولا يحب من يتصف بها، سواء في التسويات والاتفاقات، أو في العقود والأسرار، أو في العلاقات الشخصية والعامة.
الرسائل والعبر
1. الخيانة ليست فقط فعلًا، بل نيةٌ كامنة وهمٌّ مُضمر
فالغدر يبدأ من داخل النفس، والخائن يُضمر الخيانة قبل أن يُقدم عليها.
والله يبغض النية الخبيثة كما يبغض الفعل الظاهر.
2. الخيانة تهدم الثقة وتُفسد المجتمعات
المجتمعات التي يشيع فيها الغدر لا تعرف الاستقرار ولا التنمية، بل تتجه نحو الانقسام والدمار وتجريف النسيج الاجتماعي.
3. الخيانة لا تُبرَّر بالخوف أو الطمع أو بادّعاء الأحقية الإلهية بالحكم
فميزان الله هو القيم والمبادئ، لا المصالح الضيقة ولا السلالية أو الطائفية.
4. حرمان الخائن من محبة الله أعظم زجر
فمحبة الله أعظم ما يناله المؤمن، والخائن محروم منها؛
فكيف يدّعي حبّ الله ورسوله، وهو يمارس الغدر ويخون العهود؟!
إسقاط على الواقع اليمني والإقليمي
في مشهد معاصر، نجد أن "طوفان الأقصى" الذي نفّذته المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس، نجح لأنه بُني على الكتمان وعدم تسريب الأسرار؛ إذ جرت العملية في إطار دائرة ضيقة، فكانت المفاجأة حاضرة، والنتائج مدوية.
لكن بعد ذلك، طغت الخيانات في ما يُسمى بمحور المقاومة، فوقع الاختراق الكبير:
سقط قادة بارزون في حزب الله، وترددت أنباء عن مقتل بعضهم، واغتيل إسماعيل هنية في طهران، وتحدث العدو الصهيوني عن وجود استخبارات له داخل إيران، وتصنيع المسيّرات داخل أراضيها، بل ونفّذ عمليات من داخل أراضيها وأجوائها كما يزعم.
وليس من المستبعد، في ظل هذا المستوى من الخيانات، أن يصل الأمر إلى استهداف المرشد الإيراني نفسه، علي خامنئي.
وفي أثناء ذلك، أبلغ مسؤول صهيوني إدارة ترامب بأن حكومة نتنياهو قد لا تتمكن من الوصول إلى المفاعل النووي بالطيران، لكنهم قد يتمكنون من ذلك عبر عناصر بشرية من الداخل، إن لم تتدخل أمريكا في خضم هذا الصراع!
ولم يكن ذلك ليحدث لولا تفشّي الخيانة، ووجود المئات من العملاء في صفوفهم !
الخيانة في الواقع اليمني
وعند إسقاط ذلك على الواقع اليمني، نجد أن الخيانة كانت – ولا تزال – أحد الأسباب الرئيسية لانهيار الدولة، واستمرار الوضع الشاذ الذي لا يرضي الله، ولا يرضي اليمنيين، ولا يرضي العالم.
لقد أدّت الخيانة إلى:
• إطالة أمد الحرب.
• إثراء تجّار الحروب.
• زيادة معاناة الشعب.
• تعميق الانقسام المجتمعي.
• تعطيل مسار الدولة والمواطنة والمستقبل.
إنها خيانة:
• للعهود والمواثيق السياسية.
• للمسؤولية العامة والمناصب.
• لثقة الشعب من قِبل نخب وأطراف استخدمت السلطة لمصالحها أو لمصالح خارجية.
• للمشروع الوطني الجامع، لصالح مشاريع سلالية أو مناطقية أو طائفية.
لقد خان الحوثيون توقيعهم على مخرجات الحوار الوطني، فاجتاحوا عمران، ثم صنعاء، ثم بقية المحافظات، في انقلاب دموي شنيع.
ثم خانوا اتفاق السلم والشراكة الذي صاغوه بأيديهم مع المبعوث الأممي.
ثم نكثوا بكل التفاهمات والمفاوضات، في الكويت وسويسرا وستوكهولم وغيرها، خدمةً لأجندة إيران وأطماعها، وما زالوا كذلك!
وقد بات مستنقع الخيانة اليوم أحد أخطر التحديات التي تعرقل خلاص اليمن واليمنيين، وهو مستنقع لا يُحبه الله، ولا يرضى عنه الناس، ولا تقرّه القيم، ولا يبيحه شرع أو عرف.
كيف نخرج من هذا المستنقع؟
1. بالعودة الصادقة إلى الله، والتوبة من كل خيانة.
2. بإقامة العدل، وإحياء الأمانة في الحكم والسياسة والإعلام والمجتمع.
3. ببناء مشروع وطني جامع، قائم على العدل والشراكة لا على الإقصاء والخداع.
4. بمحاسبة الخونة، وإنفاذ العدل دون انتقائية أو محاباة.
5. ببناء ثقافة شعبية تُمجّد الوفاء وتُحقّر الخيانة، وتُعيد الثقة المفقودة.
الحكمة الربانية
إن تحذير الله من الخيانة ليس مجرّد نهي ديني، بل توجيه لحماية الأمم والمجتمعات؛
فمن دون الأمانة، تضيع الحقوق، وتختلط الأوراق، ويعمّ الظلم، وتفقد الشعوب هويتها وسيادتها.
تحية ختامية
الذين يتدبّرون كتاب الله لا يمكن أن يتورّطوا في الخيانة؛
لأنهم يعلمون أن الله لا يحبها، ولا يحب أهلها.
فهل نبدأ من هنا؟ من إصلاح القلب والنوايا، لنمضي إلى إصلاح الوطن والمصير؟
والله المستعان، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
دعاء روحاني من وحي التدبّر والواقع
اللهم يا من لا يحب الخائنين، طهّر يمننا من كل خيانة، واطرد عنه كل خائن، وازرع فيه الأمانة، وردّ إليه صدق العهد والميثاق.
اللهم اجعلنا من الصادقين لا من المداهنين، ومن الأوفياء لا من المتقلّبين، ووفّق القيادة الشرعية لتكون راشدة، أمينة، نقية، تسعى لخير شعبها، وتحفظ أماناتها، ولا تخون عهودها.
اللهم ألّف بين قلوب اليمنيين، وأخرجهم من نفق الخيانة إلى نور الوفاء، ومن غدر المصالح إلى صفاء النوايا، واجعلنا من الذين يحبهم رب العالمين.
آمين اللهم آمين .
وخميسكم خالٍ من الخيانة، وجمعتكم مباركة.
-->