حين تتقاطع الاغتيالات مع الصفقات الكبرى

عبدالباري علاو
السبت ، ١٤ يونيو ٢٠٢٥ الساعة ٠١:٠٧ صباحاً

ليس من السهل أن تمر سلسلة الاغتيالات التي طالت عددًا من القيادات العسكرية والعلماء النوويين في إيران مرورًا عابرًا، دون أن تثير تساؤلات جادة حول خلفياتها ودلالاتها العميقة. فعلى الرغم من التهديدات الإسرائيلية المتكررة والمعلنة، كان من المفترض أن تحظى هذه الشخصيات بحماية أمنية قصوى، نظراً لمكانتها الحساسة في بنية النظام الإيراني، ولدورها المحوري في الملفات الأكثر تعقيدًا، وعلى رأسها الملف النووي.

 

لكن التراخي الظاهر، وربما التواطؤ الصامت، لا يمكن تفسيره ضمن إطار أمني تقليدي فحسب. فالمشهد يبدو أكثر تعقيدًا حين يُقرأ في سياق التوازنات الداخلية داخل منظومة الحكم الإيرانية نفسها، والتي لم تعد تخفي الانقسام البنيوي بين جناحين متباينين:

 

• جناح راديكالي يتبنى نهج التصعيد والمواجهة مع الغرب،

• وجناح براغماتي يميل إلى التهدئة والانفتاح، ويرى في تسوية كبرى مع الولايات المتحدة مدخلاً لضمان بقاء النظام وتعزيز نفوذه الإقليمي بوسائل ناعمة لا صدامية.

 

في هذا السياق، لا يبدو تكرار عمليات الاغتيال بتلك الدقة والسهولة مجرد فشل استخباراتي، بل ربما يُقرأ كعلامة على قبول ضمني، بل وتسهيل مقصود من بعض الدوائر النافذة داخل النظام، للتخلّص من العناصر الأكثر تشددًا. عناصر قد تُعرقل ما يُشبه "الصفقة الكبرى" التي يجري طبخها على نار هادئة.

 

صفقة لا تستهدف فقط تخفيف العقوبات، بل تعيد دمج إيران في منظومة المصالح الإقليمية والدولية، ليس كعدو أيديولوجي دائم، بل كشريك ضروري في إدارة ملفات المنطقة، إلى جانب إسرائيل لا في مواجهتها.

تحول بهذا العمق لا يمكن فهمه إلا بوضعه ضمن خارطة النفوذ الجديدة في الشرق الأوسط، حيث لم تعد الجيوش والدبابات هي أدوات الهيمنة، بل التحالفات المرنة، والمصالح المتشابكة، والصفقات المعقودة خلف الأبواب الموصدة.

 

ويبدو أن تيارًا فاعلًا داخل النظام الإيراني مستعد لتقديم تنازلات داخلية قاسية – منها التضحية ببعض رموز الثورة – مقابل تثبيت موقعه في الخارطة الجديدة، حتى وإن عنى ذلك التخلّي عن سرديات المواجهة الكلاسيكية.

 

الاغتيالات، في هذا المشهد، لم تعد فعلاً عدائيًا خارجيًا فحسب، بل تحوّلت إلى أداة صامتة لإعادة هندسة التوازنات الداخلية، وإزاحة من لم يعد لهم مكان في اللحظة الانتقالية الراهنة. لحظة تُرسم فيها الحدود الجديدة للنفوذ، لا بصخب الشعارات، بل بدقة الضربات، وهدوء الصفقات، وغموض النوايا.

 

ما يحدث في إيران هو انعكاس لصراع داخلي بقدر ما هو صراع مع الخارج. صراع بين من لا يزال يتشبّث بمفردات الثورة الأولى، وبين من يرى أن الزمن تغيّر، وأن البقاء يمرّ عبر إعادة التموضع لا الاستنزاف. وربما تكون طهران بالفعل على عتبة تحوّل جيوسياسي كبير يعيد تعريف تحالفاتها، ويعيد صياغة مفهوم "العدو" و"الصديق"، ويحوّل الاغتيالات إلى أدوات تفاهم لا إلى أدوات تصفية تقليدية.

 

في نهاية المطاف، لا يمكن فصل ما يجري عن السياق الدولي الأوسع، حيث تُعيد القوى الكبرى توزيع الأدوار، وفق منطق "النفوذ الذكي" لا المواجهة الصريحة.

غير أن الدور المحوري الذي تبدو إيران مهيّأة للاضطلاع به لا ينبع فقط من امتلاكها لأوراق ضغط وامتدادات إقليمية، بل من حاجة القوى الكبرى إلى وكلاء نفوذ محلّيين يعيدون إنتاج الاستقرار النسبي وفق قواعد اللعبة الجديدة.

فالدور لا يُمنح لِمَن يملكه موضوعيًا، بل لِمن يكون قابلاً للتوظيف في لحظة السيولة الجيوسياسية.

وفي هذا الإطار، قد يُعاد تدوير إيران – أو على الأقل تيار بعينه داخلها – لأداء وظيفة إقليمية مقيّدة بالشروط الغربية، لا انطلاقًا من إرادة ذاتية مستقلة، بل كجزء من تفاهمات أوسع تُدار من خارج المنطقة، ويُعاد بموجبها تعريف الأدوار، وتحجيم التناقضات، وترويض الفاعلين.

 

وفي طريقها إلى ذلك، لن تبدو إزاحة بعض الشخصيات المتشددة ثمنًا باهظًا... بل مجرد كلفة ضرورية لتجاوز عقد الماضي، والدخول في ترتيبات المستقبل.

 

فهل نحن أمام تحوّل حقيقي في موقع إيران ووظيفتها الإقليمية؟ وهل يُعاد رسم وجه الشرق الأوسط الجديد من قلب طهران؟

 

الأسئلة ما تزال مفتوحة، لكن المؤشرات تقول إن زمن الشعارات الصاخبة يوشك أن ينحسر، لصالح مرحلة تُكتب بتواقيع خفية... وتُنفّذ بصمت بالغ الدقة.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي