صراع أغسطس الدامي بين الجمهوريين (1)
ذكرنا فيما مضى أن أسلحة السفينة الروسية كانت الشرارة الأولى للصراع في الحديدة، وتمددت فيما بعد إلى صنعاء بشكل موسع، لتشمل هذه المرة الوحدات العسكرية المختلفة المنقسمة بين طرفي عبدالرقيب والعمري، وكانت إقالة قيادات الوحدات الجمهورية للصاعقة والمظلات والمدفعية والمشاة القشة التي قصمت الجيش الجمهورية وأنتجت الصراع، ليجرد طرف عبدالرقيب من أوراق متعددة وحاسمة، هي:
- المقاومة الشعبية، التي ظلت في الحديدة، والتي عاد بعضها إلى تعز بعد انتهاء مهمتها، أو تم القضاء عليها عسكرياً واعتقالاً، كما في الحديدة وصنعاء، بينما بقيت مع المشايخ والسلطة في صنعاء.
- الأسلحة التي سلبت منه، فلم يكن معه سوى القليل منها في مخازن وحداته وهي تنفد سريعاً ولا تستطيع المواصلة.
- الحاضنة الشعبية؛ فقد كانت الحاضنة كلها في صنعاء وما جاورها للطرف الآخر.
- الدافع المعنوي، والوسائل الإعلامية التي تعرف بمشروعه، والذي كان كما أشرنا سابقاً هو بناء جيش مهني على أساس ثوري غير متذبذب بين العسكرية والشعبية.
بينما كان العمري والأحمر وسنان وأبو شوارب يستندون إلى محيطٍ طامٍ من القبائل الشمالية، وبالتالي فإن نسبة قوة الطرفين تكون من 8: 2 حسمت خلال ثلاثة أيام لصالح المشايخ كطرف السلطة، وقد أوردنا ذكرها في الحلقة الماضية كما أشار إليها الشيخ الأحمر، وهنا سنورد رواية الشيخين الأحمر وعلي المطري لتلك الأحداث بشيء من التفصيل.
بداية تفجر الصراع أن العمري في الثامن عشر من أغسطس قام بإقالة علي مثنى جبران من قيادة المدفعية، وحمود ناجي من المظلات، وعبدالرقيب من الصاعقة.
كانت هذه الإقالات من طرف واحد، ليتم بعد ذلك استبدالهم من مناطق (زيدية) ألهب أسباب الصراع؛ كونها جاءت بعد تصاعدات حادثة السفينة في الحديدة، وكان علي مثنى جبران وطرف عبدالرقيب بشكل عام يشعر أنه مستهدف بتعنت من هذه الإقالات والتعيينات وما تنبغي أن تكون في أهم القيادات العسكرية التي تصدت للحصار وضحت من أجله، فرفض طرف عبدالرقيب هذه الإقالات والتي حتى لم تأت بشكل تنقلات كما هي عادة الجيش في مثل هذه التنقلات والتعيينات؛ فقد كان التعنت واضحاً من قبل العمري.
لم يكتف العمري بالإقالات ولكنه استدعى قائد المدفعية المقال علي مثنى إلى مكتبه وقام باعتقاله وبعث به إلى سجن القلعة، وهناك مورس عليه أشد أنواع التعذيب، كما جاء من عدة مصادر. وهنا ثارت ثائرة زملائه الآخرين (طرف عبدالرقيب) وبدأت المواجهة بحسب ما جاء عند الإرياني والشيخ الأحمر.
كان بإمكان العمري والإرياني قطع الذريعة عن عبدالرقيب وصحبه، وإطفاء فتيل الصراع في عدم إجراء أي تغيير في قيادات الوحدات في تلك اللحظة الحرجة التي ستشعل الأزمة، وأن يتم توزيع الأسلحة على الوحدات بإشراف جميع الأطراف؛ العمري والإرياني وعبدالرقيب، وبذلك يسلمون البلاد الفتنة والصدام المباشر، غير أن أياً من ذلك لم يتم، فقد كان هناك من يدفع إلى الصدام دفعاً مستميتاً ومتسارعاً إلى درجة وقع العمري في شرك الفتنة واعتباره زعيم الفتنة من الجانب العسكري، وهو ما ألمح إليه الإرياني، وتحميله المسؤولية من قبل الشيخين الأحمر وسنان.
وهذا ما أكده الشعيبي أيضاً الذي يذهب بالأمر إلى أن قوى الشباب في الجيش كانت متقاربة مع العمري، والعمري يعتمد عليها في الأساس، يقول الشعيبي:
عشية تفجر المعركة بين فصائل قوى الثورة المتحالفة معه [العمري]، وذلك تحت تأثير دسيسة القوى الجمهورية المحافظة المضادة، ونجاحها –بعد أن فشلت في كسب ود الفريق العمري، وعدم وقوفه إلى جانبها- حيث نجحت تلك القوى في إثارة مشاعر النزعة الطائفية داخل صفوف القادة العسكريين، ودفعتهم –عن طريق الإغراء ودفع الأموال والسلاح، وإنزال الإشاعات المغرضة والدعاية الاستفزازية لكلا الطرفين، بما أسمته تلك الدعاية (زيود وشوافع)- دفعتهم إلى الاقتتال والتطاحن.
هناك تضارب في رواية تفجر الأحداث من قبل الإرياني والعيني والأحمر والمطري، وخاصة في موضوع عبدالرقيب، بعضها تقول كان غائباً وبعض فقرات الروايات تذكر وجوده في محادثات الوساطة، لكن العيني وهو رأس الوساطة يقول إن من فجر المعركة هو قائد المظلات حمود ناجي أثناء الحوار مع عبدالرقيب، وكذلك هي رواية المطري، بينما رواية الشيخ الأحمر والإرياني تقول إن من بدأ القصف الصاعقة من العرضي، وهذا الاضطراب يقود إلى التشكيك في أساسات الأحداث، كما سنفصل لاحقاً في بعض التساؤلات، خاصة وأن الإرياني يقول بعد كل تلك المواجهات الدامية خرج العمري وعبدالرقيب مصطلحين يسيران بين الجماهير في سيارة مكشوفة ليثبتا لهم إنهاء الأزمة وتآلف القلوب.
بعد هذا الاستعراض الميداني الاتفاقي بين العمري وعبدالرقيب كيف تم إعادة الأزمة من جديد؟!
هنا الكثير من المعلومات الغائبة، الظاهر منها كما نستنتجه أن الإرياني وبحجة معاقبة أطراف الأزمة أصر على نفيه مع من سماهم رؤوس الفتنة إلى الجزائر، ومن ثم العودة لعبدالرقيب دون أية صفة أو قوة، وقد تمت التعبئة ضده نتيجة العديد من الدسائس لتتأزم العلاقات بينهما من جديد كان هذه المرة عبدالرقيب جاهزاً للتضحية به، بينما الطرف الآخر من مقابليه عادوا ليتسنموا المناصب المتعددة والكبيرة، وهنا يبدو التحيز واضحاً ومتعمداً.
الشيخ الأحمر وفي رسالة مطولة يفصل فيها الأحداث للرئيس الإرياني، الذي كان في تعز أثناء تلك المواجهات، يصف موقف العمري وأعضاء الحكومة بالمخزي، وأن الدفاع عن صنعاء كان الدور الكلي لقبيلته حاشد، فيقول: "وأما موقف الفريق العمري وأعضاء الحكومة فهو موقف مخزي؛ موقف سلبي، موقف غير مشرف، موقف يجعل الخطر ينمو ويستفحل، ولقد كانت رسالتك صفعة لهم في وجيههم جميعاً ونحن على كل حال موقفنا معك، ونحن تحت تصرفك ومؤيدين كلامك، ولكننا غير قابلين وغير راضيين بالتخلي عن المسؤولية مهما كان الأمر.
وأما بالنسبة لما حصل في صنعاء من قتل وخراب ودمار وأضرار فهي جسيمة، وقد كان الفضل في الدفاع عن صنعاء هو لاصحابنا حاشد؛ فقد دافعوا عنها بجماجمهم القاسية ودمائهم الطاهرة، واستشهد منهم على دواير صنعاء عشرات الشهداء وكانت جماجمهم هي السور التي دفعت العدوان".
وأما ما جاء في مذكرات الشيخ الأحمر عن الأحداث فهي كالتالي:
بدأ الشرارة الأولى للمواجهة عندما اعتقل العمري علي مثنى جابر قائد المدفعية، وخرجت أما والقاضي عبدالسلام صبرة إلى المطار الجنوبي، الذي أصبح ميدان السبعين، حيث كانت ترابط فيه قوات المدفعية؛ لأنني كنت مرابطاً هناك، وكان لا يزال من اصحابنا من حاشد مجموعة قليلة في المطار لطمأنتهم ولنقول لهم: إن علي مثنى سوف يخرج، وقبل أن أصل إليهم لا أدري من نبهني وقال لي: لا تذهب أنت سوف نذهب نحن مع القاضي عبدالسلام صبرة إليهم وأنت انتظر هنا. وصلوا إليهم وهم في حالة غضب وتوتر شديدين ولم يخرجوا معهم بنتيجة. بعدها حاول مجاهد ومعه مجموعة من المسؤولين (حسين الدفعي، حسن مكي، محسن العيني) وساروا لعبدالرقيب في العرضي، وحصل بينهم ما حصل من الخلاف، ولم يخرج مجاهد إلا هرباً من مكتب عبدالرقيب، بعد أن قفز من شباك المكتب، والآخرون اعتقلوهم [هذا الأمر في رواية الإرياني وغيره بعد الصدام الأول وليس قبل الصدام]. ورجع مجاهد إلى عندي وما وصل إلا وهم يضربون بالمدافع من العرضي، وأول ما ضربوا بيتي الذي في الأبهر، وبعده بيت عمي سنان أبو لحوم وغيرها من البيوت، كما خربوا بيت القاضي عبدالله اليدومي المجاور لنا.
حزمنا أمورنا بسرعة وجمعنا حاشد المتواجدين في صنعاء وبجانبنا العقيد علي أبو لحوم وأصحابه، وشاركوا معنا مشاركة فعالة وجهزناهم ورتبناهم لحماية قصر السلاح والإذاعة وسور صنعاء، وأحمد شايف القديمي ومجموعة استلموا السور والبيوت المجاورة للدائر في بستان شارب وباب اليمن وغيره إلى السائلة.
وبعدها البيوت بيت زبارة وفندق المخاء، ولم تكن هناك عمارات كثيرة، وأرسلنا مجموعة إلى الإذاعة، ودارت معركة حامية الوطيس استمرت ثلاثة أيام تقريباً، وإذا بالفريق العمري عندما سمع المدافع يتصل بي هاتفياً يطلب وقف الحرب، قلت له: لقد قلت لك من قبل تدارك الأمور، لا تفجر الموقف معهم.
وقد قتل في هذه المعركة المؤسفة خلال الثلاثة الأيام أكثر من الذين قتلوا في حصار السبعين بأضعاف مضاعفة؛ ففي أحد المساجد بصنعاء القديمة قتل فيه اثنان وسبعون رجلاً بدانات الهاون وهم يؤدون صلاة الظهر عندما قصفوا المسجد.
يضيف الشيخ الأحمر:
لم يكن بيننا وبينهم حدود، هم في العرضي ونحن فوق الأسوار، وقتل منا قرابة عشرين شخصاً معظمهم من مشايخ حاشد؛ الشيخ حمود العرمزة، والشيخ محمد حسن عواض، والشيخ، والشيخ راجح لاهب، والشيخ عايض ناصر هبة، والرداعي وحمود أبو شوارب، ابن عم مجاهد وغيرهم، وقد هجم اصحابنا بقيادة مجاهد على العرضي مباشرة، وأصيب العميد مجاهد أبو شوارب في راسه، وبعد ذلك قتل منهم قائد محنك هو قائد سلاح المشاة محمد صالح فرحان، وكان مقاتلاً شجاعاً، والآخرون استسلموا وأخذوا سلاحهم، وهرب من هرب منهم، ومروا من بلاد سنحان ومن بلاد الروس، رغم أنهم كانوا ملكيين فقد تركوهم يفرون فواصلوا الهرب إلى عدن.
اقتدنا بعض الضباط إلى الحبس، وعاد الفريق العمري بعد ذلك فعفا عنهم.
كانت هذه المواجهة بين الجمهوريين واليساريين الذين كانوا يستهدفون اليمن بأكملها، وحاولوا قلب نظام الحكم والاستيلاء على صنعاء، لينسقوا مع الجبهة القومية الحاكمة في عدن، حيث كانت قد مرت سنة على استقلال الجنوب واستيلاء الجبهة على الحكم، وكان هناك اتصالات وتنسيق سابق بينهم.
هذا ما حصل في أغسطس بإيجاز؛ حيث كانت الحرب بين القوى اليسارية والجمهوريين، وانتصر فيها الصف الجمهوري. أ هـ
نلاحظ من خلال هذا السرد التفصيلي أن الشيخ لم يستخدم ولا مصطلحاً طائفياً واحداً كما كان يكثر منه الإرياني في مذكراته؛ بل اعتبرها جبهات يسارية هدفها الاستيلاء على الحكم، ورغم هذا التبرير إلا أن الأحداث من بدايتها كما يعلمها الجميع كانت واضحة المعالم: إقصاء، إقالات، اعتقالات، سوء نية، عدم فهم سليم، عدم مأسسة الجيش، التعيينات العشوائية، الفساد، عدم المهنية في الجيش، صراع أحزاب ونفوذ.
هذه هي الدوافع الأساسية للصراع؛ ليس قلب نظام الحكم، وليس صراعاً طائفياً كما تم تصويره.
...يتبع
-->