صلاة الجنازة والصلاة الإبراهيمية
كما كانت الصلاة الإبراهيمية ملحقة إلحاقاً متأخراً بالتشهد لم يوص بها النبي –صلى الله عليه وسلم- ولا الصحابة –رضوان الله عليهم- من بعده، كما سردناها في مختلف الروايات السابقة، والخلاف حولها، فهي كذلك في صلاة الجنازة ملحقة إلحاقاً متأخراً، وأول من ألحقها الإمام الشافعي –رحمه الله- كما سنبين في الروايات اللاحقة.
فمن خلال مراجعة السنة النبوية وما قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة على الميتين في صلاة الجنازة، فقد وردت عدة طرق وروايات عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وليس بينها ما تسمى الصلاة الإبراهيمية، والتي أدخلها الشافعي في صلاة الجنازة، كما أدخلها في التشهد هو وأحمد بن حنبل –رحمهما الله.
صلاة الجنازة عند الشافعي
يورد الشافعي كثيراً من الروايات عن صلاة الجنازة، كما عند الصحابة، بتكبيرات دون قراءة، ويقر في مذهبه عند رواية واحدة منها (عن أبي أمامة)، وهي التي تذكر قراءة الفاتحة عند التكبيرة الأولى، والصلاة على النبي في الثانية، ثم في الثالثة الإخلاص في الدعاء للميت؛ لكن الصحابي في هذه الرواية رجل مبهم لم يبينه رغم أنه أخذ بروايته، وقد نبه إلى ذلك بعض العلماء، ومنهم ابن كثير، وحتى الصلاة على النبي هنا بعمومها لا الصلاة الإبراهيمية ولا حشر الآل فيها ولا غيرهم.
قال الشافعي: أخبرنا مطرف بن مازن (قال علماء الجرح والتعديل إن مطرف بن مازن كذاب ومدلس. وروى عنه الإمام الشافعي وخلق كثير، واختلفوا في روايته، فنقل عن يحيى بن معين: أنه سئل عنه، فقال: كذاب. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال السعدي: يتثبت في حديثه حتى يملي ما عنده.
وقال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: مطرفٌ يروي عن معمر، وابن جريج، وروى عنه الشافعي، وأهل العراق، وكان يحدث بما لا يسمع، ويروي ما لا يكتب عمن لم يره، ولا تجوز الرواية عنه إلا عند الخواص للاعتبار فقط. (المصدر: موسوعة الحديث، وتراجم عبر التاريخ))، عن معمر، عن الزهري، أخبرنا أبو أمامة بن سهل، أنه أخبره رجل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سراً في نفسه (مسند الشافعي: صـ359)، بينما رواية أبي أمامة وغيره في كيفية الصلاة على الجنازة وردت بغير تلك التي رواها مطرف بن مازن، والتي أخذها عنه الشافعي، لم يرد فيها ذكر الصلاة على النبي مطلقاً، وهي، كما جاءت عند الألباني: "عن أبي أُمامَةَ بنِ سَهلٍ أنَّ رَجُلًا من أصحابِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أخبَرَه أنَّ السُّنَّةَ في الصَّلاةِ على الجِنازَةِ أنْ يُكبِّرَ الإمامُ، ثم يَقرَأَ بفاتحةِ الكتابِ سِرًّا في نَفْسِه، ثم يَختِمَ الصَّلاةَ في التَّكبيراتِ الثَّلاثِ، قال الزُّهْريُّ: فذَكَرتُ الذي أخبَرَني أبو أمامَةَ من ذلك لمُحمَّدِ بنِ سُوَيدٍ الفِهْريِّ فقال: وأنا سَمِعتُ الضَّحَّاكَ بنَ قَيسٍ يُحدِّثُ عن حَبيبِ بنِ مَسلَمَةَ في الصَّلاةِ على الجِنازَةِ مِثلَ الذي حدَّثَك أبو أُمامَةَ" (الجامع لأحكام الجنائز في سؤال وجواب - المجلد 5 - الصفحة 35 - جامع الكتب الإسلامية).
وقد أورد بعض الروايات التي تؤيد قول أبي أمامة لكنها تقف عنده، فقال: أخبرنا ابن عيينة عن محمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد قال: سمعت ابن عباس يجهر بفاتحة الكتاب على الجنازة، ويقول: إنما فعلت لتعلموا أنها سنة. وهذا القول يخص قراءة الفاتحة فقط ولم يقل بغيرها عند ابن عباس، وليست مشهورة بين بقية الصحابة، وعبدالله بن عمر –رضي الله عنهما- لم يقرأ شيئاً في الصلاة غير التكبيرات، مخالفاً ابن عباس.
وقال أيضاً: أخبرنا مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري، حدثني محمد الفهري عن الضحاك بن قيس أنه قال مثل قول أبي أمامة..(أي: قراءة الفاتحة فقط).
وقال أيضاً: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن إسحاق بن عبدالله، عن موسى بن وردان، عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه كان يقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى على الجنازة (مسند الشافعي: صـ359، دار الكتب العلمية –بيروت، لبنان)، وقراءة الفاتحة في التكبيرة الأولى رواية أيضاً عن ابن عباس. ويبدو أن الشافعي كان يرجح ما يذهب إليه ابن عباس من روايات دون غيره، فكما أخذ بتشهده فقد أخذ بقراءة الفاتحة على الجنازة في التكبيرة الأولى، لكن الصلاة على النبي يبدو مما استحب إدخالها في الصلاة على الجنازة، آخذاً برواية مطرف بن مازن عن أبي أمامة التي فيها زيادة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ويبدو مما سبق أن الشافعي جمع مذهبه في الصلاة على الجنازة من ألفاظ وروايات مختلفة لم يرد معظمها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعضها موقوف، وبعضها مختلف فيها بين الصحابة، وبعضها ألفاظها ورواياتها مضطربة، وبعض رواتها ضعفاء ومدلسون وكذابون، كما قيل في حق مطرف بن مازن.
لكن كل هذه الروايات تقول بقراءة الفاتحة فقط لا بغيرها؛ فإذاً من أين جاء بقراءة الصلاة الإبراهيمية في الجنازة؟!
ثم إن الحديث الذي أورده من طريق مطرف بن مازن عن أبي أمامة مضطرب في ألفاظه؛ فهو يقول فيه: يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، ثم في نهاية الحديث ينفي ما جاء في أوله من قراءة ويقول: لا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سراً في نفسه (مسند الشافعي: صـ359 )، وهذا لأمر عجاب إثبات حكم القراءة ثم نفيها في حديث واحد!
وحتى إن الألباني ذهب مذهب الشافعي في قراءة الفاتحة وسورة في صلاة الجنازة "يخافت فيها مخافتة بعد التكبيرة الأولى"، وأورد ذلك عن أنه في رواية للبخاري(صفة صلاة النبي –صلى الله عليه وسلم-: محمد ناصر الدين الألباني: صـ123، 124)، وعدت للبخاري فلم أجد ذكراً لأمر السورة بعد الفاتحة، إلا ذكر سورة الفاتحة كرواية وحيدة في صلاة ابن عباس على الجنازة، ولم ترد عن غير ابن عباس مطلقاً.
صلاة الجنازة عند مالك
يورد الإمام مالك –رحمه الله- أن صلاة الجنازة أربع تكبيرات، كما فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- مستدلاً بحديث أبي أمامة بن سهل أيضاً، فقال: وحدثني عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف؛ أنه أخبره: أن مسكينة مرضت، فأُخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمرضها. قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعود المساكين ويسأل عنهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا ماتت فآذنوني بها". فخُرج بجنازتها ليلاً، فكرهوا أن يوقظوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُخبر بالذي كان من شأنها، فقال: "ألم آمركم أن تؤذنوني بها"؟ فقالوا: يا رسول الله، كرهنا أن نخرجك ليلاً، ونوقظك. فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى صف بالناس على قبرها، وكبر أربع تكبيرات"( الموطأ: ج1/ 312).
هكذا ذكرها تكبيرات دون قراءة شيء؛ إلا أن ما تم تبيينه في أحاديث أخرى بالدعاء للميت.
حدثني يحيى عن مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، أنه سأل أبا هريرة: كيف تصلي على الجنازة؟ فقال أبو هريرة: أنا لعمر الله أخبرك: أتبعها من أهلها، فإذا وضعت كبّرتُ، وحمدت الله، وصليت على نبيه، ثم أقول: اللهم عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به. اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه سيئاته. اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده( الموطأ: ج1/313، رقم الحديث 609).
وهذا موقوف على أبي هريرة –رضي الله عنه- فقط ولم يرفعه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم، وتبين من خلاله أيضاً أن لا قراءة في الصلاة.
وحدثني عن مالك، عن يحيى بن سعيد؛ أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: صليت وراء أبي هريرة على صبي لم يعمل خطيئة قط، فسمعته يقول: اللهم أعذه من عذاب القبر(المصدر السابق: ج1/ 313، رقم الحديث 610).
وحدثني عن مالك، عن نافع؛ أن عبدالله بن عمر كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة(المصدر نفسه: ج1/ 313، رقم الحديث 611).
صلاة الجنازة عند البخاري
جاء عند البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على النجاشي فكبر أربعاً لم يذكر فيها لا قراءة الفاتحة ولا الصلاة الإبراهيمية، ولكن التكبير فقط.
قال: حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات"(صحيح البخاري: صـ321، رقم الحديث 1333).
وحدثنا محمد بن سنان، حدثنا سليم بن حيان، حدثنا سعيد بن ميناء، عن جابر -رضي الله عنه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على أصحمة النجاشي فكبر أربعاً"(المصدر السابق: صـ321، رقم الحديث 1334)، وقال الحسن: يُقرأ على الطفل بفاتحة الكتاب ويقول: اللهم اجعله لنا فرطاً وسلفاً وأجراً.
وحدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن سعد بن طلحة قال: "صليت خلف ابن عباس - رضي الله عنهما- وحدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن طلحة بن عبدالله بن عوف قال: "صليت خلف ابن عباس -رضي الله عنهما- على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب. قال: لتعلموا أنها سنة"(صحيح البخاري: صـ 322، رقم الحديث 1335).
أي أن هذه الصلاة أيضاً موقوفة على ابن عباس ولم ترفع للنبي -صلى الله عليه وسلم.
صلاة الجنازة عند مسلم
قال مسلم: وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، أخبرنا ابن وهب، أخبرني معاوية بن صالح، عن حبيب بن عبيد، عن جبير بن نفير سمعه يقول: سمعت عوف بن مالك يقول: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: "اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر (أو من عذاب النار)". قال: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت(صحيح مسلم: رقم الحديث 85- 963، صـ662، 663).
الخلاصة
- نلاحظ من خلال الروايات السابقة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الجنازة تكبيرات فقط دون قراءة أية قراءة لا من القرآن ولا غيره، سوى الدعاء للميت.
- أن الشافعي هو من أدخل الصلاة الإبراهيمية في صلاة الجنازة على اعتبار أن تلك الصلاة عنده هي الصلاة على النبي، وأن صيغتها والواجب فيها ورودها في التشهد والصلاة، وكذلك صلاة الجنازة.
- أورد الشافعي روايات تلك الصلاة عن رواة مدلسين اتهموا بالكذب كمطرف بن مازن السابق، وأن رواية أبي أمامة التي اعتمد عليها لم ترد عند الآخرين بذكر الصلاة على النبي.
.... يتبع
-->